رغم ظلال الكآبة التي القت بها أحداث الفتنة التي تكررت عقب قيام الثورة المجيدة، إلا أنني وسط هذا المحيط المظلم اجد نفسي اشعر بالأمل في الغد، فما حدث هو بمثابة مخاض للثورة وانفجار لدمل مزمن ظل يتغذى على مناخ طائفي محتقن وبغيض امتد لحوالي اربعين عاما، وإن كنا نضيف اليه اياد خارجية عملت جاهدة لافشال الثورة ووأدها في المهد، وعندما فشلت اصابها العمى السياسي والتاريخي فظنت أنها يمكنها أن تفعل في مصر مثلما فعلت وتفعل في لبنان أو البحرين أو سوريا لكن مصر مع احترامي للبنان والبحرين وسوريا، أكبر بكثير جدا واسمى من هامات هؤلاء الأقزام الذين يحاولون لبننتنا. وإذا كان ابرز انجازات الثورة يتمثل في الاطاحة بالرئيس المخلوع وعدد من رموز نظامه، فأن هناك انجازا آخر لايقل اهمية على الاطلاق، والذي تمثل في استعادة النسيج الوطني المصري لتلاحمه في قلب ميدان التحرير. والموسف أن هناك قوى اقليمية عربية قاتلت من أجل الابقاء على الرئيس المخلوع وعمدت على الضغط بشدة على سادتها في واشنطن من أجل ذلك، ليس حبا في المخلوع ونظامه الفاسد ولكن من أجل هدفين رئيسيين: الأول أن تظل مصر رجل المنطقة المريض الذي لايقدم ولا يؤخر أو كما نقول ” لايهش ولا ينش”، فقط يظل نظامها الحاكم نمرا على المصريين يحكمهم بقبضة بوليسية، بينما يظل ” خيال مآتة ” على المستويين الاقليمي والدولي، ولقد حقق الرئيس المخلوع هذا الهدف باقتدار، فهو إن كان نجح في إنجاز شيء في حياته فأن هذا الانجازتمثل في تقزيم دور مصر وانهاكها واستنزاف ثرواتها المادية والبشرية وإذلال شعبها وقهره. أما الهدف الثاني الذي حاولت ولاتزال تلك القوى الإقليمية العربية تنفيذه فهو يتمثل في منع وصول نيران الثورة إلى نظامها المتهالك المتهاوي الاركان، فمن تونس إلى اليمن والبحرين مرورا بليبيا وسوريا، ظل شبح انتقال عدوى الثورة يقلق مضاجعها، ولطالما حاربت كل الثورات والانتفاضات المصرية فلم تسلم منها الحياة السياسية قبل الثورة بدعمها لتيارات الإسلام السياسي، وحاولت التنغيص على ثورة يوليو 1952 والآن جاء الدور على ثورة 25 يناير 2011 ، نفس السيناريو يتكرر بنفس الوجوه والأدوات القبيحة. وإذا كانوا فشلوا في الحفاظ على الرئيس المخلوع فأنهم يمارسون سياسة الكر والفر البدوية القديمة مع ثورة يناير والحكومة المصرية، مستخدمين في ذلك أدوات معروفة لطالما ظهرت في تحالفات شيطانية جمعت بين الفاسدين من الحزب الوطني البائد والطفيليات من البلطجية الذين ارتبطوا برموزه وهؤلاء الذين وفدوا على مصر محملين بالفكر الوهابي تحت دعاوى السلفية وما شابه يحركهم جميعا جهاز أمن الدولة، غير الماسوف عليه، ولاتخطىء العين ذلك التحالف الشيطاني الذي كشفت عنه بوضوح وثائق أمن الدولة وما خفي كان أعظم. أما سر تفاؤلي فيكمن في الرهان على المستقبل وقرارات العقلاء من النخبة الوطنية، واستلهاما من تاريخ مصر العريق. ولعل هذا العنف المتصف بالغباء الزائد والذي يحاول خلق مناخ من الفوضى، أصبح بمثابة الدمل الخبيث الذي ينفث سمومه فبات مفضوحا أمام الجميع. ولكن... يجب أن نعي أمرا بالغ الأهمية وهو إذا كانت الثورة أعادت التلاحم للنسيج الوطني، أو بالاحري قامت بترميمه بعدما عانى من الانتهاكاكات قرابة الاربعين عاما، أقول أن ذلك الترميم وتلك المشاهد التي رأيناها في قلب ميدان التحرير والتي جاشت بها عواطفنا، لاتعني القضاء بكبسة زر على مناخ طائفي ترسخ على مدار تلك السنوات وساهمنا فيه جميعا ورسخته سياسات النظام البائد، في محاولة لخلق مبررات للتشبث بكرسي السلطة وخلق فزاعة من التطرف صنعها ذاك النظامن ليضعنا أمام خيارين لاثالث لها إما الفساد أو السقوط في براثن دولة الارهاب. لذلك فأن المسيرة نحو إصلاح ما افسده النظام البائد خاصة فيما يتعلق بالمناخ الطائفي طويلة جدا، فسهل أن تهدم والصعب أن تعيد البناء، ولم تعد تلك الاساليب العقيمة والبالية تجدي نفعا مع تلك المشكلة، فالحل ليس بيد الشيخ والقسيس، أو المسجد والكنيسة، بل في ترسيخ قيم المواطنة على اساس الدولة المدنية أولا والدولة المدنية أخيرا، ولندع ما لقيصر لقيصر وما لله لله. أيضا لابد للحكومة المصرية من وقفة جادة وحازمة مع الاطراف الخارجية التي تحاول أن تقذف نوافذنا بالحجارة في حين أن بيتها ليس من زجاج مهترىء بل من خيوط أوهن من خيوط العنكبوت، تموج داخليا بغليان شعبي مكبوت بسبب ثرواتها المنهوبة وحقوقها السياسية والاجتماعية والانسانية المسلوبة، كما انه على تخومها الفوضى تقرع بشدة أبوابها الصدئة، وتحاول تلك القوى وقف هذا الزحف القادم عاجلا أم آجلا بلا محالة، متوهمة أن نجاتها في وأد الثورة المصرية، أو خلق حالة من الفوضى على غرار ما فعلته وتفعله على الساحة اللبنانية. لكن ... مصر ليست لبنان ولن تكون .. شرط أن نؤمن نحن بذلك.