مظاهرات يومية وحاشدة شعرت معها أننى أتجول فى شوارع القاهرة وأمر بميدان التحرير، مع الفارق فى النظام والنظافة ملاحظة مهمة لفتت نظرى وقت زيارتى لبرشلونة لمدة خمسة أيام بدعوة من منظمة (الاتحاد من أجل المتوسط ) لاطلاع بعض الصحفيين المصريين على المشروعات التى يقدمها الاتحاد لدول جنوب البحر المتوسط (وجميعها عربية بما فيها مصر )، وبفضول الصحفى حاولت التعرف على أسباب التى دعت أبناء هذا الاقليم الاسبانى الغنى الى تنظيم هذه المظاهرات، لأكتشف أن السبب الاساسى للتظاهر هناك الا وهو المطالبة باستقلال برشلونة أو الاقليم الكاتالونى كما يحلو للكثير من الإسبان هناك تسميتها، ولكن شعرت أن المعلومات لدى منقوصة وأرغب فى المزيد ولا أدرى ماذا أفعل حتى أتعرف على الأكثر عن هذه المظاهرات ؟ دار السؤال بداخلى كثيرا إلى أن التقيت مصادفة داخل مقر ( الاتحاد من أجل المتوسط ببرشلونة ) بالسفير المصرى علاء يوسف المستشار السياسى للاتحاد، فسألته عن قصة محاولات الكاتالانيين الانفصال عن إسبانيا وما هو تاريخها وأسبابها، فقال لى سوف أعرفك على زميلى المصرى فى الاتحاد محمد الرزاز فهو يدرس الماجستير فى الشأن الكتالونى وبمجرد لقائى به قال لى أن وتيرة هذه المظاهرات قد زادت هذه الايام نظرا لأنها توافق مرور ثلاثمائة عام على سقوط برشلونة بعد حصار محكم من جيوش فرنسا، وذلك فى الحادى عشر من سبتمبر عام 1714، وتبقى ذكرى السقوط ماثلة فى الذكرى الشعبية الكاتالانية وحاضرة بقوة فى ثقافة هذا الجزء من اسبانيا ليس فقط لمرارة الهزيمة، وإنما لما ترتب عليها من عواقب وتغيرات جذرية فى مصير كاتالونيا، يراها قطاع كبير من المجتمع الكاتالانى كنقطة تحول فارقه فى تاريخه، ويكفى أن نعرف أن يوم السقوط (الحادى عشر من سبتمبر ) قد تحول الى العيد القومى لكاتالونيا لكى ندرك حرص الكاتالانين على عدم نسيان هذا الحدث وما تلاه من فقدان كاتالونيا لامتيازات تاريخية . واستطرد الرزاز قائلا إنه من الناحية الجغرافية، تقع كاتالونيا فى شمال شرق إسبانيا، حيث تحدها فرنسا شمالا، وهى واحدة من سبع عشرة منطقة تتمتع بدرجات متفاوتة من الحكم الذاتى فى مملكة اسبانيا، وتتكون من أربعة أقاليم هى برشلونة وترجونة وجيرونة ولاردة. أما تاريخا، فيرجع الكثير من من المؤخرين جذور كاتالونيا للصراع بين دولة الاسلام فى الاندلس و بين مملكة الفرنجة، حيث قام شارلمان بتأمين منطقة عازلة بين المملكتين، امتلأت مع الوقت بالحصون والأبراج، واجتزبت سكان جبال البرانس . وفيما بعد، صارت برشلونة كونتية، ثم أصبح كونت (حاكم) برشلونة ملكا لأراجوان، ونشط العديد من هؤلاء الحكام فى توسيع رقعة مملكتهم فى القرنين الثانى و الثالث عشر، الى أن ضموا اليها العديد من المناطق فيما يقابل اليوم إسبانيا وفرنسا وإيطاليا وصولا الى اليونان. وقد ارتبط مصير كاتالونيا بباقى شبه جزيرة إيبريا منذ زواج فرديناند ملك أراجون وإيزابيل ملكة قشتالة فى القرن الخامس عشر، ثم هبت رياح التغيير فى القرن الثامن عشر والذى بدأ بحر بعلى مقعد السلطة بين الهابسبورج والبور بون، ودفعت كاتالونيا ثمن مساندتها للهابسبورج غاليا، اذ تم حل مؤسسات كاتالونيا والغاء قوانينها وسحب امتيازها وتغير وضعها من امارة الى مجرد جزء من التاج الاسبانى بقرار من الملك الجديد فيليب الخامس. ورغم ذلك بزغ نجم كاتالونيا فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر مع إرساء دعائم نهضة ثقافية وعلمية ارتبطت بالثورات التى أدارتها الثورة الصناعية والتجارة مع العالم الجديد، ثم جاءت الرياح بما لا تشتهى السفن، حيث فقدت اسبانيا مستعمراتها فى كوبا وغيرها من الدول، مما شكل ضربة قاسية لاقتصاد كاتالونيا، الا أن الضربة الأقوى حملتها الحرب الأهلية الاسبانية ووصول الدكتاتور فرانكو للسلطة مع نهاية الحرب عام 1939، وذلك بعدما تحالف مع هتلر وموسولينى اللذين أرسلا طائراتهما الحربية لضرب مراكز المقاومة الجمهورية فى كاتالونيا واقليم الباسك دعما لحليفهم فرانكو. ولم تتوقف حرب فرانكو على الاحتلال المادى لكاتالونيا وإنما امتدت الى الثقافة الكاتالانية فى محاولة لمحو الهوية وإذابة كاتالونيا تماما فى المجتمع الاسبانى الذى أراده الدكتاتور، ومن مظاهر ذلك استهداف اللغة الكاتالونية من خلال منع استخدامها فى المدارس والجامعات ووسائل الاعلام والاماكن العامة، كما حظر المظاهر الاجتماعية و الاحتفالية التقليدية مثل الاغانى والرقصات الكاتالونية، وقامت الدولة بتشجيع الهجرات من المناطق الافقر فى اسبانيا الى كاتالونيا بغرض اختلاط الانساب والقضاء على القومية الكاتالانية . ولكن لم تفلح تلك الممارسات القمعية فى إجبار الكاتالانيين على التخلى عن ثقافتهم، بل زادتهم إصرارا على التمسك والاحتفاء بها بعيدا عن أعين زبانية فرانكو، وهو الأمر الذى لا ينساه الكاتالانيون المعتزون بهويتهم .والآن وبعد ثلاثة قرون من سقوط برشلونة، يستند دعاة استقلال كاتالونيا الى مبررات كثيرة منها اختلاف اللغة والثقافة وغيرها من محددات الهوية، بالاضافة الى معارضة البعض لنظام الملكية ولسياسات الحكومة المركزية فى مدريد، خاصة فيما يتعلق بالشق الاقتصادى والتعليمى، حيث يؤمن هذا القطاع بأحقية الشعب الكاتالانى فى تقرير المصير، ويراهن على ما تملكه كاتالونيا من موارد طبيعية وبشرية ،مقومات للنجاح، كما إنه لا ينسى ما تعرضت له كاتالونيا من قهر ومحاولات لطمس الهوية . أما فى الجانب المقابل، هناك قطاع أخر من الكتالونيين معارض تماما لمشروع الاستقلال، حيث يرى أن مصلحة كاتالونيا تكمن فى البقاء كجزء من دولة قوية وموحدة، ويشعر بأنه مندمج ومتوافق تماما مع سائر بقاع اسبانيا، علاوة على التخوف من العزلة التى قد تتعرض لها كاتالونيا حال استقلالها بالفعل، وهو ما تعتبره الحكومة الاسبانية أمرا غير مطروح للتفاوض نظرا لعدم دستوريته. وبالرغم من ذلك فإنه من المنتظر أن يشهد العالم الحالى الكثير من الفعاليات السياسية والاجتماعية والثقافية التى تكرس لفكرة الاستقلال، حيث تعتزم حكومة كاتالونيا عقد استفتاء شعبى بخصوص هذا الشأن وهو الأمر الذى ترفضه الحكومة الإسبانية شكلا وموضوعا، وتعارضه أنظمة أوروبية عديدة تخوفا من استنساخ هذا النموذج فى دول أخرى وما لذلك من تأثير على الاتحاد الاوروبى ككيان قوى وموحد الصف.