المصائب لا تأتي فرادي مقولة متشائمة لكنها أحيانا تكون حقيقة واقعة والدليل, ما يحدث في إسبانيا حاليا, فالأزمة المالية التي تعصف بها والرفض الشعبي المتزايد لخطط التقشف الحكومية المنعكس في المظاهرات الحاشدة التي تشهدها شوارع العاصمة مدريد بشكل مستمر , ليست سوي وجه واحد للمشكلة. أما الوجه الآخر وربما الأكثر خطورة علي مستقبل الدولة ككل وليس الحكومة الحالية فقط هو تعالي الأصوات الانفصالية المقبلة من إقليم كاتالونيا الغني الواقع شمال شرق البلاد, والذي يعد من أكثر المناطق الاسبانية نشاطا من الناحية الاقتصادية إذ يساهم في اجمالي الدخل القومي للبلاد بحوالي20% فضلا عن كون مدينة برشلونة عاصمته مقصدا سياحيا عالميا. الأمر الذي أثار التساؤلات عن أسباب هذا الغضب الكاتالوني وعن مدي جدية هذا المطلب لدي مواطني الإقليم. وللإجابة عن هذه التساؤلات لابد من إلقاء نظرة سريعة علي تاريخ هذا الإقليم الذي يتكون من أربعة مقاطعات ويسكنه أكثر من سبعة ملايين نسمة, وتعد عاصمته برشلونة ثاني أكبر المدن الاسبانية بعد العاصمة مدريد, كما يعد الإقليم سادس اكبر منطقة في البلاد من حيث المساحة وتعتبر اللغة الكتالانية هي اللغة الرسمية للإقليم بالإضافة للأسبانية, وقد تمتعت كاتالونيا علي مر العقود بوضعية خاصة كونه إقليم له تاريخ ولغة مستقلة, ومع بداية القرن العشرين حصل علي درجات متفاوتة من الحكم الذاتي عدة مرات, انتهت بنهاية الحرب الأهلية الاسبانية عام1939 ووصول الجنرال فرانكو إلي الحكم, حيث قمع النظام القائم آنذاك وبشدة كل النشاطات العامة المتعلقة بالقومية الكاتالونية, وفي مقدمتها بالطبع استخدام اللغة الكاتالونية في المؤسسات الحكومية وخلال المناسبات العامة, ولكن في المراحل اللاحقة من حكم فرانكو أبدي قدرا من التسامح تجاه استئناف الاحتفال ببعض المناسبات الشعبية والدينية المرتبطة بالإقليم, ولكن مع استمرار منع اللغة الكاتالونية في وسائل الإعلام. وبعد وفاة فرانكو عام1975 وتبني دستور ديموقراطي عام1978 وخلال مرحلة الانتقال السلمي من الديكتاتورية للديموقراطية, استعاد الإقليم حكمه الذاتي سياسيا وثقافيا بعد30 عاما من القمع. ولكن يبدو أن هذه الصورة البراقة لم تستطع الصمود أمام عنف الأزمة التي تواجه أسبانيا, فمع الاعتراف بالأهمية الاقتصادية لهذا الإقليم, فان ذلك لا ينفي أن الإقليم يعاني عجزا ماليا يقدر من7 إلي8 مليارات يورو سنويا بسبب ارتفاع الديون لمعدلات ضخمة حتي انه اضطر أخيرا إلي طلب المساعدة من الحكومة المركزية في مدريد, هذه الحقائق أثارت حالة من الغضب الشديد لدي السكان الذين اعتبروا أن الأزمة بمثابة نقطة اللاعودة, ورأوا أن المشكلة لا تتعلق بسوء الأداء الاقتصادي للإقليم بقدر ما تتعلق بأن مساهماتهم في الاقتصاد القومي لا تقابل بمردود مناسب علي مستوي الخدمات, وأن الحل يكمن في اتفاق ضريبي جديد مع الحكومة المركزية يضمن للإقليم حق التصرف في عائدات الضرائب لمواجهة أزمة ديونه الداخلية, وهو ما رفضته تماما حكومة ماريانو راخوي. هذا الرفض جعل الأزمة الاقتصادية عاملا رئيسيا وفاعلا في توسيع الفجوة بين حكومتي مدريدوالإقليم, وبعث من جديد فكرة الانفصال كحل أخير لمنع إقليمهم من السقوط في دوامة الأزمة المالية الاسبانية. ومن هنا كانت المسيرة الحاشدة التي شهدتها شوارع برشلونة وتداعت لها كل القوي السياسية في الإقليم بعد ان تناست مؤقتا خلافاتها واتجهت في مسيرة واحدة نحو مبني البرلمان في محاولة لإسماع صوتهم للحكومة المركزية, وقد رفعت خلال المظاهرات الأعلام الكاتالونية في محاولة لإثبات الهوية كما رفعت لافتة ضخمة كتب عليها كاتالونيا دولة أوروبية جديدة ومستقلة, هذه الأعلام مازالت معلقة في شرفات المنازل حتي بعد مرور عدة أسابيع علي المسيرة, ربما استعدادا للانتخابات المبكرة التي دعي إليها رئيس وزراء الإقليم ارتر ماس في الخامس والعشرين من شهر نوفمبر المقبل, وهي الانتخابات التي تعتبر في رأي الكثيرين استفتاء ضمنيا علي استقلال الإقليم, ولكن يبدو أن الرفض الحكومي لهذه التحركات وكذلك للمطالبات بميثاق مالي جديد, مبررا ذلك أن الطريق الوحيد هو التقشف للحد من عجز الموازنة, وان مشاكل الاقليم جزء من مشاكل أسبانيا ككل لكن المستقبل الضبابي للاقتصاد الاسباني يدفع الكاتالونيين الذين لم يفكروا يوما في الانفصال الي النظر لهذه الخطوة باعتبارها طوق النجاة من بلد في طريقه للفشل. ويبقي بعد ذلك التساؤل عن مدي استعداد الإقليم لهذه الخطوة, وهو أمر يشكك فيه المراقبون الذين يرون ذلك أمرا تحوطه الشكوك, خاصة بعد أن اضطر الإقليم لطلب المساعدة من حكومة مدريد, ولكن بعيدا عن هذا الجدل السياسي فقد كان هناك جدل من نوع أخر حول مستقبل نادي برشلونة إذا استقل الإقليم, فرغم أن رئيس النادي ساندرو روسيل شارك في المظاهرات, إلا انه أكد أنه حتي في حالة الاستقلال سيبقي برشلونة بالدوري الإسباني.