عندما ثار الشباب علي عبد الناصر برغم أن قوات الجيش عادت إلي ثكناتها بعد خلعها الملك فاروق وسيطرتها علي السلطة في يوليو1952 فإن الجيش أصبح له لفترة طويلة وجود حاضر في نواحي الدولة المدنية, أولا عن طريق ما أطلق عليه مندوب القيادة وهواسم كان يطلق علي الضباط المكلفين بتمثيل قيادة الثورة في كل وزارة ومصلحة وجهاز من أجهزة الدولة ويكون عين الثورة في الجهة التي يندب إليها, وثانيا عن طريق سياسة الاعتماد علي اهل الثقة( ثقة القيادة العسكرية) لا أهل الخبرة, وهي سياسة كان من بين نتائجها جعل التقرب والنفاق والغش لا الكفاءة والخبرة والصدق أساس الترقي والوصول. وغير ذلك لعبت الشرطة العسكرية المفروض أنها تختص بالضبط والربط داخل القوات المسلحة دورا واسعا في الحياة المدنية باعتبارها تمثل هيبة الدولة وتنفيذ قرارات الثورة في فرض الحراسات والتأميمات ومطاردة الإخوان المسلمين والاقطاعيين. إلا أن هذه الشرطة العسكرية لم تظهر عندما ثار الشباب علي الثورة وخرجت مظاهراته لأول مرة تعلن معارضتها لعبد الناصر. ثورة الشباب علي الثورة كان ذلك يوم20 فبراير عام1968 عندما أصدرت أحكامها المحكمة العسكرية التي تحاكم المسئولين عن نكبة سلاح الطيران صباح الخامس من يونيو.67 ولأن الخسارة كما اتضح كانت فادحة إذ شملت تدمير جميع الطائرات القاذفة الثقيلة والخفيفة التي تملكها مصر و85 في المئة من المقاتلات, بينما لم تتجاوز خسارة السلاح البشرية أربعة في المئة من الطيارين لأنه تم تدمير الطائرات المصرية وهي راقدة علي الأرض ظاهرة واضحة أمام صواريخ القاذفات الإسرائيلية كالبط الوديع, فلم تكن هناك دشم أو مخابئ تلجأ إليها الطائرات. أقول نتيجة ذلك توقع كثيرون الحكم بإعدام المسئولين, لكنهم فوجئوا بالحكم بالسجن15 سنة علي قائد القوات الجوية الفريق أول صدقي محمود, والسجن عشر سنوات علي رئيس شعبة الدفاع الجوي اللواء طيار إسماعيل لبيب وبراءة الباقين, فكان أن اندلعت المظاهرات في مصر. وحسب تقرير النيابة العامة الذي عرض في اجتماع مجلس الوزراء برئاسة جمال عبد الناصر يوم25 فبراير1967 فقد بدأت المظاهرات من حلوان من عمال مصانع الطائرات ثم امتدت إلي أقسام القاهرة والجيزة والإسكندرية, وكانت أقواها في كلية الهندسة بجامعة القاهرة حيث تم إطلاق الشرطة أعيرة نارية لفض المظاهرات إلا أنها قتلت اثنين وأصابت عددا من المتظاهرين والمارة كما أصيب من رجال الشرطة22 ضابطا و65 شرطيا و40 من الطلبة والأهالي. وكالعادة في مثل هذه المظاهرات جري تدمير وإحراق بعض عربات الترام وسيارات الشرطة والمباني. لكن الذي كان لافتا للنظر كما ذكر تقرير النيابة تجاوز هتافات المتظاهرين وطلباتهم, حدودا قضية الطيران وتناولهم نظام الحكم. ففي كلية هندسة القاهرة وزع الطلبة منشورات تضمنت طلب الإفراج عن جميع زملائهم المعتقلين وحرية الرأي والصحافة, ومجلس حر يمارس الحياة النيابية السليمة, وإبعاد المخابرات والمباحث من الجامعات, وإصدار قانون الحريات والعمل به, وتوضيح حقيقة المسئولين في قضية الطيران, والتحقيق في انتهاك حرمة الجامعات واعتداء الشرطة علي الطلبة. وقد أثبتت تحقيقات النيابة وأنا أنقل من تقرير النيابة المقدم لمجلس الوزراء أن الهتافات التي ترددت في المظاهرات كانت: تسقط دولة المخابرات تسقط دولة العسكريين تسقط صحافة هيكل الكاذبة لا حياة مع الإرهاب ولا علم بدون حرية يا جمال الشعب هوه هوه اضربوا الخونة بقوة يا سادات يا سادات فين قانون الحريات( كان السادات رئيس مجلس الأمة) يا شعراوي يا جبان راحوا فين عمال حلوان( كان شعراوي جمعة وزير الداخلية). إلا أن كل ذلك لم تشر إليه الصحف بكلمة بسبب الرقابة المفروضة علي الصحف. برغم استمرار المظاهرات والإشتباكات بين الشرطة ومظاهرات الشباب عدة أيام وفي يوم25 فبراير1968 نشرت الصحف بيانا أصدرته وزارة الداخلية بعدم السماح بقيام أي مظاهرات مهما كان سببها, وأنه في الأيام السابقة تدخلت قوات الأمن في أضيق الحدود وبعد توجيه النصح بكل الوسائل, إلا أن وزارة الداخلية تلفت النظر إلي أن قرار منع المظاهرات سوف يطبق فورا بطريقة حاسمة وسوف تقابل أية محاولة للخروج عليه بالشدة التي تستلزمها مسئولية وأمانة المرحلة الحاضرة. كيف واجه عبد الناصر الأزمة كانت فترة فبراير- مارس68 من الأزمات الصعبة التي واجهها عبد الناصر فقد كانت الأزمة بينه وبين الشباب أبناء الثورة بل أبناء عبد الناصر نفسه كما كان يعتبرهم. ولهذا ربما كانت أهم دروس هذه الأزمات استكشاف كيفية التعامل معها وقد جرت علي الوجه التالي: 1 إن عبد الناصر أدرك بحسه السياسي أن الأزمة ليست في حقيقتها أزمة أحكام لم يرتضها الشباب والشعب, وأن الهزيمة لا ينظر إليها كهزيمة عسكرية مسئول عنها بعض العسكريين وإنما هي أزمة حكم وأن الهزيمة نتيجة فشل النظام السياسي الذي يرأسه مما يستوجب الرد عليها سياسيا لا أمنيا. 2 كان أول إجراء أن أعلن عبد الناصر يوم20 مارس تشكيل وزارة جديدة برئاسته كان الجديد فيها ضمها وجوها جديدة من النخبة المتخصصة من أساتذة الجامعات كان من بينهم د. عبد العزيز حجازي وزيرا للخزانة, ود. حلمي مراد وكان معروفا بنشاطه الاجتماعي والسياسي بين الطلبة في كلية حقوق عين شمس وتولي وزارة التربية والتعليم, ود. أحمد مصطفي للبحث العلمي ود. محمد حافظ غانم للسياحة وغيرهم. 3 في يوم30 مارس ألقي عبد الناصر بيانا أسماه بيان30 مارس متضمنا خطة العمل السياسي في المرحلة المقبلة التي حدد فيها إعادة بناء الاتحاد الاشتراكي وهو التنظيم السياسي الوحيد القائم في ذلك الوقت وأن يتم ذلك بالانتخابات من القاعدة إلي القمة بحيث يجتمع المؤتمر القومي للتنظيم يوم23 يوليو في ذكري الثورة مما يشغل المجتمع كله من أول القرية إلي المدينة بهذه الانتخابات. كذلك تضمن بيان مارس إقامة أربعة مجالس قومية متخصصة: مجلس الدفاع القومي, والمجلس الاقتصادي القومي, والمجلس الاجتماعي القومي, والمجلس الثقافي القومي. وقيام المؤتمر القومي للإتحاد الاشتراكي بعد اجتماعه بوضع مشروع دستور للبلاد تحمي مواده المكتسبات الاشتراكية والضمانات لحرية الرأي والتفكير والنشر والصحافة وحماية الملكيات العامة والتعاونية والخاصة وحدود كل منها ودوره علي أن يطرح الدستور للاستفتاء بعد الانتهاء من معركة استعادة الأرض المحتلة. وهكذا تم تأجيل قضية الديمقراطية لارتباطها بالدستور. 4 إجراء استفتاء عام علي برنامج30 مارس يوم2 مايو68 وبعد ذلك السير في إجراءات تنفيذ البيان. وهكذا بسرعة واجه عبد الناصر أزمة الشباب واستطاع إلي حد ما احتواء المتفجرات التي انطلقت في وجه النظام دون أن يلجأ إلي تدخل عسكري خاصة أن الظروف التي كانت عليها القوات المسلحة في ذلك الوقت لم تكن تسمح بذلك. ge.gro.marha@tnomhalas المزيد من أعمدة صلاح منتصر