هذا التماسك الرائع في الصياغة الليبية لفن الرباعي يجعله متميزا بصورة فريدة، ولولا تكرار بعض الرباعيات المغربية والمنسوبة لسيدي «عبدالرحمن المجذوب» لاعتبرناها مصاغة علي الأوزان نفسها ملتزمة بقانون القوافي نفسه، فمثلا هذا المربع الذي ورد علي لسان الأستاذ (أحمد النويري) في برنامجه الرائع عن الفن الشعبي الليبي: نوصيك ياواكل الراس في البير.. لوح عظامه واضحك والعب مع الناس والفم.. ديرله لجامه والمعني ليس في أكل الراس ودفن العظام في البئر، ولكن في أن تحتفظ بسرك لنفسك وأن تدفنه في أعمق الأعماق، وتسلك بين الناس كأنك لاه وليس لديك ما تخفيه، أما الفم فعليك أن تضع فيه لجاما يسده حتي لا يفلت منك القول. أما مربع المجذوب من ديوانه فيرد فيه نفس الرباعي هكذا: نوصيك ياواكل الراس في البير ارمي عظامه اضحك والعب مع الناس فمك.. متن له لجامه والرباعي نفسه يرد عند «ميلي» التي سمعته وجمعته من رواة جزائريين تماما كما ورد عند المجذوب بلا خلاف ولا نجد داعيا لإيراده هنا، والأمر نفسه عند ايراد الرباحي الجزائري له، وهو من المربعات النادرة التي لم تتحرف أو تتغير من بلد إلي بلد ومن راو لآخر. عيب الجمل قلة النقل وعيب الحصان الحرانة وعيب الولد خفة العقل تطلع جوارح لسانه رغم أهمية هذه الكائنات فإن لها عيوبا. الجمل بطيء في نقل أقدامه رغم تحمله طول المشاوير وثقل الأحمال، وهل ينكر أهمية الحصان وقدراته وجماله؟ إلا أنه يحرن ويجفل أحيانا وهو أمر يعيبه تماما كما يعيب الولد خفة العقل لأنها تفضح خلقه الحقيقي وتخرج نابي القول وفاحشه من لسانه. نفس النصيحة بأن علي البني آدم أن يخفي أسراره في قلبه إذ أن علة ابن آدم لسانه. المفروض أن تدع الأذن تسمع والعين تري ولا تفتح صندوق قلبك وتخرج للعلن ما دسسته به: القلب صندوق للدس وعلة منادم لسانه والودن تسمع الحس والعين تشبع بيانه. ويقول الرباعي الليبي أنك إذا طلبت أطلب منه «الله» فهو الكريم المعطاء، أما العبد أو البشر فدعك منه فانه مهما فعل لن يرفعك أو يخفضك: واللي يطلب يطلب من الله يقول: يا كريم المعاطي والعبد خليك منه لا يشيعك لا يواطي هذا التماسك في الأداء والالتزام بالقوافي دون تعسف هو طابع الرباعي الليبي: عز الولد سيف وزناد وملح البنات الرزينة وملح الوطا سيل بداد يخلف نواوير زينة ما أجمل الشعر والمعني معا، فأفضل الأبناء مآكان سيفا وزنادا يدافع عن أهله، وأجمل البنات الرزينة منهن، وأجمل ما يغمر الوادي أو الأرض الواطئة سيل جامح يخلف وراءه النوار والزهور الجميلة. طلب الأجاويد بالعين وموت الحنش قص راسه وكثرة المهات للدين تسابيب قلة خلاصه يجب أن تخاف علي كرامتك وإذا طلبت شيئا فليكن بنظرة عينيك وإذا ما وجدت أن الأمور لن تنتهي لصالحك فلتتخذ موقفا حاسما إذ أن الحنش لن يقتل إلا بقطع رأسه في حسم. كما كثرة المطالبة بالدين المهات: أي هات هات هي السبب في أن المدين يسأم ويعتاد ولا يسدد الدين أبدا. القلب ما يفتشه حد واش فيه وعلاش عابي وكيف من حسد كيف من ود كيف من جري بالا كذابي؟ لا أحد منا يعرف مافي قلب الآخر فنحن لا نستطيع تفتيشه ومعرفة ما به أو بماذا هو معبأ عابي فهل من حسدك مثل من ودك مثل من راح يشيع عنك أخبارا كاذبة؟ «منادم» اللي ياريت عينيه تعرف معاني وجابه إذا كان حبيبك تشاكيه وإذا كان عدوك تهابه ابن آدم إذا ما نظرت في عينيه تعرف علي الفور لماذا أتى. إن كان صديقا لك فتحت قلبك له وان كان عدوا تأخذ حذرك منه. يا طالع لفوق للجو ابني علي الصح ساسك ويا حارث الشوك من تو تشوف العجب من دراسك إذا أردت الصعود بما تبني، تأكد أنك أسست بشكل صحيح، ويا من تزرع الشوك الآن، سوف تجد العجب حين تدرس، فالشوك لن يهبك سوي الشوك، كما أن الرباعي نفسه يتكرر مع تغيير البيت الثاني فيه ليصبح: يا طالع لفوق.. للجو ابني علي الصح ساسك يا حافر حفرة السو ماتحفر إلا.. قياسك والأمر واضح: أن من حفر حفرة لأخيه وقع فيها، بل إن من يحفر حفرة بنية الايذاء فإنه في الحقيقة يحفر قبره. من عز نفسه .. لقاها ومن باعها.. جات رخيصة ونفسا تتبع رضاها تجيبك لدار النقيصة والمعني أن من ترفع عن المشاين والصغائر وجد نفسه وصار محترما بين القوم ومن باعها في خدمة الزور والباطل رخصت وما عاد يساوي شيئا فان النفس التي تتبع أهواءها، لابد وأن تحط من قدر صاحبها. إللي يحبك تحبه وإللي يلومك تلومه واللي يسبك تسبه وإن بان الجفا ما ترومه ألا يذكرنا هذا بمجموعة رباعيات أولها المربع المصري الذي يقول: من حبنا حبيناه وصار متاعنا متاعه ومن كرهنا.. كرهناه يحرم علينا اجتماعه ويقول المجذوب في المعني نفسه: اللي بغانا.. نبغوه علي محبة الله نلمه واللي جفانا.. نجفوه هذاك تهنية منه أي كما من علينا بالجفاء، فان الجزاء من جنس العمل، وكما فعل نفعل. ولو انه في الرباعي التالي يتراجع عن مبدأ (اللي جفانا.. نجفوه) مما يؤكد لنا دائما أن العديدين كتبوا علي هذا المنوال ونسبت أقوالهم للرجل. إللي حبك.. حبه وفي محبته كن صافي فى.. كرهك لا تسبه وخليه .. تلق العوافي وأما من كرهك فلا تسبه وابتعد عنه تجد السلامة. اللي جاك وتعناك فرش له شطاطة من كساك واللي راح وخلاك ما نقص لك من عشاك أي: من اهتم بك واستعنى لك واحترمك افرش له ولو جلبابك أو قطعة منه يجلس عليها، اما من نبذك ورفضك فوجوده كعدمه وترك لك عشاءك دون نقصان. ويورد الجزائري «عبدالرحمان الرباحي» وفي محبته كن صافي والسر اللي بينكم أخفيه وخليه تلقي العوافي ويذا تركك لا تسال عليه وهكذا نري أن الرباعيات الليبية والمصرية والمغربية والجزائرية تتفق علي هذا المعني وان كانت الصياغات اختلفت كثيرا أو قليلا إلا انها تتجه لنفس المصب. ومن النصوص الليبية في الدنيا والحياة: ما جابها جري ملحاح جري لن طاحت قدامه امشي لها مشي مرتاح ما أخضع الحياة ولا قرب المكاسب رمح الرامحين، فتجد الواحد منهم يجري حتي تخذله ساقاه ويسقط، فالحياة ديدنها التأني الذي تعتمد فيه علي الله لينجيك من المزالق. وبنفس المعني تقريبا يقول الرباعي الليبي: ما هي بجري العراقيب ولا هي بكتر الحذاقة إذا كان مولاك عاطيك يسهل مسارب أرزاقه ليست بجري الأقدام ولا بالاحتيال بحلو الكلام، إذا كان الله أراد فإن الرزق يأتي من كل جانب. حبيبك ال.. كنت تبغيه لا تجرحه جرح باين واقطع من الكتف واعطيه وإن شاينك ما تشاين والمعني : حافظ علي الصداقة وضح من أجلها، واطعمه من لحم أكتافك، وإذا أخطأ في حقك لا تبادله خطأ بخطأ. اللي ما يهون عليك داك عليه ما تكثر ملامك واللي ما يقلك بعوجاك ما له جميل في سقامك من لم يرفعك لحظة سقوطك ويهون عليك مأساتك، لا تنتظر منه أن يقف إلي جوارك في مرضك. يالندرة وايش بيه اللي نقربه يعود هارب تقول ناقل الجمر في ايديه ولا سموم العقارب يا هل تري ما عيبي؟ ولماذا يهرب مني كل من اقتربت منه؟ هل اتيهم بجمر في يدي يخشون حرارته، أو اتيتهم بسموم العقارب يهربون خوفا من السم؟ لقد أوردنا كل تلك الرباعيات الليبية لأؤكد أن النسج علي المنوال أمر مؤكد، وان شعوبنا بمجرد أن وجدت هذا القالب البسيط الذي وكأنه مهيأ بالذات لحمل الحكمة الشعبية والتعبير ببساطة عن أفكار البسطاء تبنته وهو نفس ما حدث في مصر، فإن المربعات التي أبدعها ابناء الجنوب المصري خالصة المصرية وان كنا نري في قلبها بعضا مما انتقل من الشمال الافريقي بالصيغة نفسها تقريبا، ولكننا لا نجد هذا علي أفواه العامة بل في ذلك الكتيب الصغير الذي «نخع» قصة الفارس والعروس وأورد بعضا من مربعات يبدو أنها نقلت حرفيا عن رباعيات سيدي عبدالرحمن المجذوب من مثل ذلك المربع الذي أوردناه عن النساء: بهت النساء بهتين من بهتهم جيت هارب يتحزموا باللفات ويتخللوا بالعقارب ولقد ورد هكذا في ديوان القول المأثور من كلام الشيخ عبدالرحمن المجذوب والذي أوردنا تحولاته في النص الجزائري وكذلك في النص المصري، وكما أوردنا سلفا أن معظم المربعات ينشدها شعراء السيرة الهلالية قبل بدء القص وقد دونا الكثير منها ووضعناه في موضعه من الجزء الأول من مجلداتنا عن السيرة الهلالية النص الشعبي ولم نجد مربعا واحدا مما ورد في الكتيب الضئيل الذي يحكي بنزق علمي عن (ابن عروس) يقال علي ألسنة العامة أو المنشدين، فمثلا ذلك الرباعي الذي يقول: يا قلب نكويك بالنار وإذا بريت.. نزيدك يا قلب خلفت لي العار وتريد من لا يريدك وذلك الرباعي الذي تسلل بصورة أو بأخري إلي الكتيب الرخيص لافي الجبل واد معلوم ولا في الشتا ريح دافي لا في العدو قلب مرحوم ولا في النسا عهد وافي تجده في المربعات الليبية يعيد تشكيل شطراته حسبا لمتطلبات من يستعمله: مافيش في الناس متموم ولافي الشتا ليل دافي ولا في البحر بير معلوم ولا في العدو قلب صافي والمعني: إن الكمال لله فلا يوجد في الناس إنسان ليس به عيب. كما وأن الشتاء ليس به ليلة دافئة، وكيف يمكن أن يوجد في البحر بئر معلوم ومعروف مكانه والماء يغطي كل المساحات، وهل يمكن لك أن تصادف بين أعدائك من يملك قلبا صافيا لك؟. هكذا تتحول المربعات وتتبدل أولوياتها في زحفها من بلد إلي بلد ومن فم إلي فم ومن لهجة إلي لهجة. كذلك هذا المربع الذي يغير ملابسه تبعا لكل بلد انتقل إليه بينما يظل البدن هو البدن، نفس اللون، وطريقة أداء العمل، والتعبير عن هم عام يشمل الفقراء جميعا في كل قطر. ففي أصل الرباعي عند «المجذوب» نجده علي هذه الصورة: ما يرقد في الليل مهموم إللي يحمل الذل.. مانع ما يغسل العرض صابون ما يقلب القلب صانع والمعني ان الهم لا يمكن الإنسان من نوم ليله، فذل الهم يمنعه، ونفس الأمر بالنسبة للعرض الذي لا يغسله سوي الدم، وكذلك فإن الصانع الذي يصنع القوالب للأشياء لا يستطيع مهما بلغ من المهارة أن يقلب قلبا، والقصد أنك لا تستطيع أن تغير قلبا بقلب، أي أن تمسح عنه حزنه أو تبدل ذله أو عزة. أما حين يرحل النص إلي ليبيا، فنجد أن المهموم ينقلب إلى مديون لأن الدين هم بالليل وذل بالنهار وتجد كلمة الذل تحولت إلي الضل وكذلك تعبير ما يقلب القلب ينقلب إلي ينجر القلب. فيصبح المعني أن المدين لا يزوره النوم ليلا وانما يتقلب متفكرا في دينه معذبا من عدم قدرته علي سداده وأن العرض لا يغسله الصابون والقلب لا يستطيع النجار أن ينجره: ما يرقد الليل مديون ولا يحمل الضل مانع ولا يغسل العرض صابون ولا ينجر القلب صانع حين أتأمل اللغة وأضاهيها بلغة صعيد مصر، أحس كأنها منه إلي الجهات العليا المسماة بلاد المغرب أو شمال إفريقيا، هل كانت اللهجات متطابقة إلي هذا الحد قبل أن يطغي عليها الإعلام فيحور معانيها ويغير سنينها وتشاكيلها؟ انظر مثلا إلي مربع المجذوب. (يرقد) فنحن نرقد ولا نستعمل كلمة ننام كثيراو كلمة (يحمل) بمعني يحتمل، فنحن نستعملها بنفس تشكيلها كسير الياء، تسكين الحاء، فتح الميم، تسكين اللام. بينما المدن يستعملون (يستحمل) كذلك كلمة (العرض) فنحن لا نقول (العرض) وإنما نستعمل الكلمة كما جاءت في رباعي المجذوب وفي الرباعي الليبي بفتح العين، وكأنها المقابل للطول كما نقول (الطول والعرض) هذا التشابه اللغوي يؤكد ذلك التآلف الذي أشرنا إليه من قبل، وتأثر كل فريق بميراث الآخر وتجاوزت المسألة اللغة إلي المربعات ذاتها التي سوف يدعي بعض المصريين أنها مصرية وبعض الليبيين أنها ليبية ونفس الأمر بالنسبة للمربعات الجزائرية ذات اللهجة الجزائرية وان كانوا ينسبون ذلك لطول اقامة «سيدي عبدالرحمن المجذوب» بالجزائر. لقد جمعت الدارسة الفرنسية جان سيل ميلي رباعيات من الجزائر تفوق كثيرا الرباعيات التي وردت في ديوان المجذوب، وإن كان الكثير منها مضعضع البناء لا يعتمد علي القوانين الأساسية للرباعي وقيمته ضئيلة من الجانب الفكري، وهذه الزيادات الزاحفة إلي النصوص الأصلية تؤكد الانتحالات والملابسات التي جعلت مثل تلك الرباعيات تختلط برباعيات المجذوب. لذلك فنحن ملتزمون بما جاء في ديوان «المجذوب» وتتبع التحولات التي طرأت علي النصوص في انتقالها وفي اختلاف الرواة. بالطبع هناك العديد من المربعات التي لا نوافق نحن علي محتواها، لكنها حكمة الصابرين من الفقراء الذين لا سند لهم ولا منصب ولا جاه، كالصمت مثلا، تجد المجذوب يعلي من قيمة الصمت إلي أن يصبح شيئا كالجبن، وطوال الوقت ينصح به: الصمت الذهب المسجر والكلام يفسد المسألة إذا شفت.. لا تخبر وإذا سألوك قل لا.. لا السكوت من ذهب، الكلام يودي بك إلي التهلكة ويفسد الأمور، لذلك التزم الصمت وإذا رأيت لا تخبر وإذا سئلت قل: لم أر!! الصمت حكمه ومنه تتفرق الحكايم لو ما نطق ولد اليمامة ما يجيه وليد الحنش هايم هو الصمت حكمة الحكم، فلو كان فرخ اليمام الصغير صمت، لما استمع إلي هديله الحنش ليلتهمه علي وجه السرعة. كذلك الرباعي الذي أوردناه من قبل حول نعمة الصمت نوصيك يا واكل الراس في البير ارمي عظامه اضحك والعب مع الناس وفمك متن له لجامه إذا أكلت شيئا اخفيه في بئر عميق وتواجد بين الناس اضحك والعب كالعادة، اما فمك فلا تفتحه وكأنت تضع له لجاما يمنعه من القول. الزيت يخرج من الزيتونة والفاهم يفهم لغات الطير إللي، ما تخرج كلمته ميزونه يجحرها في ضميره.. خير الكلام الطيب يخرج من الفم الطيب كما تخرج الزيتونة الزيت والفاهم يعرف قيمة الكلام حتي لو صدر عن الطير، والذي لا تخرج كلمته من فيه مقننة موزونة فليبحث لها عن جحر في دخيلة ضميره أفضل. لا تسرج حتي تلجم واعقد عقدة صحيحة لا تتكلم حتي تخمم لا تعود لك فضيحة والمعني أنك لا تضع السرج علي ظهر حصانك قبل أن تلجمه والا فسيلقي به ببساطة، ولا تتكلم قبل أن تفكر والا جلبت الفضائح علي نفسك. ونفس الأمر في الرباعي التالي ومعناه أن المتعجل يخطئ: السابق من الخيل تعثر وربي يدبر عليها وبذا يكلح الفم ربي لا يحاسبني عليها الخيول التى تسبق ننعثر وكان الله في عونها، وإذا ما انزلق لساني قبل التفكير فأخطا فلربما غفرها لي الله، أو ليسامحني الله. إذا فالصمت هو ماء الفقراء يحتسونه في المجالس عند الغرباء والأقرباء، ولا يبوحون بالمكنون في الصدور فإنهم يدفعون ثمن ذلك غاليا، وهي خاصية يبجلها فقراء المشرق مثلما يقدر شأنها فقراء المغرب. ثم نأتي لدور الفقير وقيمته الهزيلة في مجتمع لا يستمع إلا لأقوال الموسرين، أما الفقير فلا يعتد به أحد ولا يعتني بالاستماع له أو إعارة ما يقول أي انتباه، وأظن أن الكثير من رواة المربعات في المشرق والمغرب العربي يتشابهون في التعبير عن هذه الظاهرة. يقول المجذوب: راجل بلا مال محقور في الدنيا ما يسواشي.. المشرار كالدلو المقعور يوصل للماء يرجع بلاشي الفقير الذي لا يملك مالا محتقر ولا يساوي شيئا في هذه الدنيا والمفلس مثل دلو الشادوف الذي لا قعر له أو الذي يوجد ثقب كبير في قعره فهو دائما ينزل إلي الماء ويعود بلا شيء. نخدم علي المال ونطيح والمال بيت الطناخة راجل بلا مال كالريح مشرار وحب الشياخة نعمل من أجل المال إلي أن نسقط، فالمال يظل دائما بيت الزهو والمناصب والخيلاء، فالرجل الذي لا مال لديه كالريح: مفلس ويحب أن يكون في الصدارة وعلو الشأن. ويقول سيدي المجذوب في ديوانه: ضربت كفي بكفي وخممت في الأرض ساعة صبت له الشي ترشي وتنوض من الجماعة لقد جلست متحيرا في أمور الدنيا أضرب كفا بكف، ونظرت إلي الأرض مفكرا لساعة فاكتشفت أن قلة المال تهد الإنسان وتزلزل كيانه وقيمته وتطرده بعيدا عن البشر. ويذكرني هذا الرباعي جدا بمربع مصرى متكرر باختلاف الصياغة والتعبير عن نفس المعني: تاريها الدراهم بتنفع بتمشي في البحر مسالك اللي بلا الدراهم ما ينفع حديته وسط المجال ما سالك وفي ظرف وخفة دم مصرية يقول وكأنه قد عرف فجأة أن للدراهم قيمة: «لقد اكتشفت فجأة أن للنقود قيمة كبيرة وهي قادرة علي أن تشق لك مسالك وطرقا في وسط البحور، كما انني اكتشفت أن المفلس الذي لا يملك مالا ليس ثمة نفع له أو للآخرين، وإذا ما قال قولة بين الرجال لا يستمع إليه أحد ولا يحترمها أحد. ثم يعود ويكرر المربع بصورة أخري تحمل بعدا أعمق. تاريها الدراهم بتنفع يتجيب مال ويا غنيمة والصاحب اللي ما ينفع البعد عنه غنيمة وللشطر الثاني شرحان بمعنيين مختلفين المعني الأول: أن الجنيه يعود حاملا جنيها وأن من يملك المال الكثير يجني المال الكثير من تجارته. أما المعني الثاني وهو تفسير فقراء الفقراء من الفلاحين: ان المال قيمته في أنه يجلب »المال« والمال هنا هو الابل والماشية كما انه يشتري «غنيمة» يعني غنما فماذا يهم الفلاح في الدنيا أكثر من أن يمتلك ماشية وأغناما، أما البيت الأخير في المربع فمعناه واضح: أن الصاحب الذي لا ينفعك في شدتك البعد عنه غنيمة وهو يلتف حول القافية ليلعب لعبة المعنيين في كلمة واحدة تلك الميزة العبقرية للمربع المصري. ويقول المجذوب عن الفقر والفقراء أيضا: الشاشية تطبع الراس والوجه تضويه الحسانة المكسي يقعد مع الناس العريان نوضوه من حذانا والمعني: أن الشاش أو الشاشية كما يطلق عليه في المغرب يطبع الرأس بالحسن، والوجه يضوي ويضيء ويصبح جميلا بعد الحلاقة. - الحسانة - ويسمونها فى الصعيد الزيانة - من كان جميل الملبس يجلس بين القوم، أما العريان فاطردوه من بيننا ليجد له مكانا يليق به. وهذا مربع يعكس التناقض حول حياة واهتمامات كل من الغني والفقير يرد باختلافات بسيطة بين عدة روايات أولاها بالطبع رواية المجذوب في ديوانه: المصبط ما دري بالحافي والزاهي يضحك علي الصوم الي راقد علي القطيفة دافي والعريان كيف يجيه النوم
وتجد نفس المربع عند الفرنسية »ميلي« المصبط ما دري بالحافي والزاهي يضحك علي الهموم اللي راقد علي القطيفة دافي والعريان كيف يجيه النوم وأظن أن الأستاذ عبدالرحمان الرباحي الجزائرى استفاد من النصين ليضع الأصح: المصبط ما دري بالحافي والزاهي يضحك علي الهموم اللي راقد علي القطيفة دافي والعريان كيف يجيه النوم؟ والمعني: أن المنتعل الذي يلبس حذاء - المصبط- لا يدري معاناة وشقاء الحافي السائر تحت الشموس، والزاهي يضحك ويسخر من الهموم وإن كنت أظن أنها «المهموم» أي أن ذا البال الرائق الخالي من الهم يسخر من المهموم وان الراقد علي القطيفة نام بالطبع دافئا، والعاري من أين يأتيه نوم؟. المال.. يا المال وإليه البنات مالوا اللي ماعنده شي مال ما يعلم حتي كلبي بحاله ولو استسلمنا لما نسج عليه من رباعيات عن الفقر والغني والتناقض بينهما ومسلك البشر إزاءهما فلن نصل إلي بر. ونختم الأمر بذلك الرباعي الليبي الذى أوردناه: اللي يُطلب يُطلب الله يقول: «يا كريم المعاطي» والعبد خليك مِنَّهْ لا يشبّعك لا يواطي. والمعني أن الله كريم وليس مثل كرمه كرم، أما الإنسان فلا تعتمد عليه فهو ليس بيده أن يرفعك أو يخفضك.