الحديث عن تفعيل مقومات الدولة المصرية والنهوض بها كدولة مدنية ديمقراطية تأخذ بكافة مقومات البناء لدولة حديثة عصرية تفترض أن ترتكز على مبدأ التطور والتقدم المستمر، فى إطار عملية ديناميكية تهدف إلى الانتقال من مرحلة الاستهلاك إلى الإنتاج، وتوفير بناء مؤسسى مستند الى مجموعة من القيم والآليات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية الداعمة لدولة القانون والمواطنة. الدولة الحديثة التى عبر عنها خروج الجماهير يوم 25 يناير 2011، وإصرارهم عليها بخروجهم مرة أخرى لإسقاط حكم الإخوان يوم 30 يونيو الماضي، تبرز الكثير من التحديات المرتبطة بهيكل الدولة المصرية ودرجة التطور المجتمعى وعلاقة الدولة بالمجتمع وبالثقافة المجتمعية وضعف البناء السياسى وتشتت النخبة المصرية وواقع مأساوى لجماعة سياسية وثورية غير قادرة على تجاوز نتائج حالة الركود السياسى التى فرضها نظام مبارك. هذه التحديات تفرض بدورها حدود القدرة على المكاشفة وصياغة واقع جديد يستند الى مجموعة من الركائز: الركيزة الأولي: تتعلق بالجانب القيمي، والذى يعنى إعادة النظر فى ثقافة المواطنين والقيادات، لتتحول من منطق الرعاية و«الارتكان» إلى مرحلة المبادرة. والمسألة هنا ترتبط بالتحفيز الذاتى والمجتمعى على السواء، لاستخراج الطاقات البشرية وتوظيفها بالشكل الأمثل، فيما يعرف ب«الاستثمار فى البشر». وهو ما يمكن أن يتحقق فى حالة توفير مناخ اجتماعى واقتصادى وسياسى يتسم بالانفتاح والديمقراطية القائمة على المساواة والمشاركة. كما أن هذا المناخ يساعد عند تحققه على بلورة هوية وطنية لا تشكل فيها الرؤى والجدليات الدينية والأيديولوجية حيزا قد يدفعها نحو الانقسام والتشتت. الركيزة الثانية: تتعلق بالنظام والسياسات الاقتصادية الداعمة لسبل التنمية البشرية وتمكين المجتمع ومواجهة قضايا الفقر والبطالة واستنهاض الاستثمارات المحلية، بالإضافة الى جذب الاستثمارات الخارجية. الأمر الذى يمكن أن يتحقق عبر تحقيق الإدارة الرشيدة فى المؤسسات الاقتصادية المختلفة. الركيزة الثالثة: تتمثل فى تحقيق الديمقراطية السياسية، والتى تعنى توفير هامش من الحرية فى التعبير والمشاركة. الأمر الذى يرتبط بدوره بإعمال مبدأ سيادة القانون، وتفعيل دور المؤسسات، والبعد عن الشخصنة فى القيادة ووضع السياسات. فضلا عن تفعيل المشاركة المجتمعية وتقوية منظماته وأدواره التنموية. وهو ما يشير إلى كبر التحدى الملقى على السلطة القادمة والمجتمع، وأهمية توافر إرادة سياسية ومجتمعية كسبيل لمواجهة محاولات إفشال الدولة أو تقسيمها أو تقزيمها من جانب، وان تكون هذه الإرادة حاضنة ومحفزة على الإبداع والتقدم من جانب ثان، وأن تكون موجهة لمكافحة الإرهاب وصياغة عقد اجتماعى جديد يستند الى مطالب العدالة الاجتماعية من جانب ثالث، وأن تكون داعمة لبناء نظام سياسى قادر على دفع العملية السياسية والتحول الديمقراطى من جانب رابع. وفى هذا الإطار، يمكن التركيز على أربعة مقومات رئيسية تساعد على تحفيز البيئة المحيطة بعملية البناء والنهوض، وهى : المقوم الأول: يرتبط بانجاز الدستور وهو خطوة مهمة وأساسية لتوفير قواعد البناء والنهوض. وقد أكدت الوثيقة الدستورية الجديدة، على حزمة متكاملة من الحقوق والحريات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، التى تعكس ملامح العقد الاجتماعى بين المواطن والدولة، وتمثل نقطة انطلاق لتأسيس حكم ديمقراطى داعم لقيم الشفافية والنزاهة والمحاسبة والمواطنة، ولكن يبقى تفعيل هذه الحقوق وإيجاد السياق السياسى والمجتمعى الداعم لها والقادر على تحويلها الى سلوك وثقافة حاكمة للدول والأفراد. المقوم الثاني: يرتهن بالقدرة على إدارة العملية الانتخابية الرئاسية والبرلمانية بقدر كبير من النزاهة، وان تمثل هذه الانتخابات خطوة متقدمة نحو إصلاح النظام السياسى وتوفير أرضية ملائمة لإدارة العملية السياسية وتحقيق الاستقرار، وهنا يجب تأكيد أهمية تجاوز الحالة الثورية دون افتقاد أهدافها كسبيل لإعادة تنظيم التفاعلات السياسية والاقتصادية فى إطار القنوات الرئيسية التى تربط المواطنين مع القوى السياسية والاجتماعية، وهو ما يقتضى بالضرورة إعادة تنظيم وتفعيل الخريطة السياسية والحزبية واعادة تنظيم المنظمات الأهلية كسبيل لإعادة صياغة الأدوار والمسئوليات المطلوبة لتلبية احتياجات المجتمع وافراده وتبنى سياسات وبرامج حكومية فعالة. المقوم الثالث: يرتكز الى طبيعة النخبة ودورها، فالنخبة تحدث التغيير فى فكر ومسار المجتمع ويقع على كاهلها دفع عملية الإصلاح والبناء، حيث تتم ممارسة عملية التغيير نحو النهوض من خلال ترجيح اتجاهات أو مسارات معينة، هنا يبرز التحدى الملقى على الفاعلين فى الساحة المصرية حاليا، سواء كانوا نخبة سياسية او قوى سياسية وثورية أو أحزابا وقوى مجتمعية من خلال تحديد انحيازاتهم من قضية البناء والنهوض وتحقيق أهداف الثورة أم استمرار حالة الثورة واللادولة . وهو ما يقودنا الى مستوى أخر من الحركة والأدوار التى يمكن أن تنتهجها القيادة السياسة للدولة والنخبة المحيطة بها عبر تحديد أى من المسارين سوف تسير بنا، الأول يرتبط بالقدرة على امتلاك رؤية للنهوض وتفعيل المقومات المطلوبة لتحقيق هذه الرؤية، والثانى انتهاج مسار تقليدى لإدارة شئون الدولة وفقا لمنهاج يخلو من الإبداع . المقوم الرابع: يرتبط بإعادة تنظيم منظمات المجتمع المدني، وتحديد مسئولياته وأدواره وترسيخ قيمه بالقدر الذى يساعد على دفع قوى المجتمع الى المشاركة فى عملية البناء والتنمية، بالإضافة الى تعزيز آليات التنمية بالمشاركة، والتى تعتمد على علاقة ارتباطية بين المؤسسات الحكومية ومنظمات المجتمع المدنى والقطاع الخاص ، حيث تستند هذه العلاقة الى شراكة كاملة تبدأ بالتخطيط وتنتهى بجملة من السياسات العامة وخطواتها التنفيذية والتى يشكل فيها القطاع الخاص بمؤسساته الاجتماعية قوة الدفع لقاطرة المجتمع المدني. بمعنى أدق إن القدرة على امتصاص التأثيرات السلبية للمرحلة الانتقالية يجب أن تشكل ركيزة للتقدم وبناء المستقبل، كما أن مواجهة مشكلات مثل الفقر والأمية والبيروقراطية والفردية وتحقيق العدالة الاجتماعية وبناء مجتمع عصرى تتطلب جميعها شراكة ومشاركة بين مختلف أركان الدولة وتتطلب أيضا حدوث قدر كبير من التنسيق القائم على المفاوضات وتوزيع الأدوار بين كل الأطراف والقوى السياسية والمجتمعية واستيعاب التكوينات الاجتماعية المختلفة، وقبل ذلك كله تنمية الوعى بمتطلبات بناء الدولة الحديثة. لمزيد من مقالات د. أيمن السيد عبدالوهاب