عفوا ياسادة ليس لدينا مجتمع مدني في مصر, هذه النتيجة لها الكثير من المؤشرات والمعايير الدالة عليها, ولكني سوف اقتصر في هذا المقال علي مؤشر واحد, وهو ما عبرت عنه الحكومة بتجميد أموال1054 جمعية أهلية لارتباطها بجماعة الاخوان المسلمين, فهذا التجميد استند إلي ارتباط تنظيمي وعضوي ووظيفي مع الجماعة. وهو ما يوضح قصور معظم دور المنظمات الأهلية ومسئولياتها المجتمعية علي أسس وركائز تتعلق بتكوينها وانحيازاتها العقائدية والطائفية والعائلية, بقدر أكبر من كونها تلبية لاحتياجات مجتمعية تنموية وحقوقية وداعمة لمنظومة القيم الأساسية وفي مقدمتها قيم المواطنة والقيم المدنية. ورغم قلة هذا العدد من الجمعيات مقارنة بالعدد الإجمالي للجمعيات الأهلية( مايزيد علي40 ألف جمعية) ومحدوديته الكبيرة مقارنة بما يمكن أن نسميها تجاوزا منظمات مجتمع مدني تظل مسألة التوظيف الديني والتوظيف السياسي وغيرها من الاختلالات التي تعكسها خريطة المنظمات الأهلية علي مستوي الأدوار والمسئوليات والقيم مقصورة علي بناء مجتمع مدني. ولذا فالقضية يجب أن تظل في إطارها الأوسع, وإذا كنا بعد ثورة30 يونيو نريد إعادة تنظيم العلاقة بين الدولة والمجتمع, فمن الضروري إعادة تنظيم المجتمع الأهلي بكل مؤسساته وأدواره ومسئولياته وقيمة, بالقدر الذي يساعد ويسهم في بناء مجتمع مدني قوي غير قابل للاختراق أو التوظيف. فالقضية الأساسية هنا هي التوظيف الديني والسياسي للمنظمات الأهلية( الجمعيات والنقابات,..), فهذا التوظيف الذي ينتزع مسمي المجتمع المدني من هذه المنظمات, ويضعها في مساحات أقرب لأذرع وأدوات لقوي سياسية ومجتمعية تعمق الشروخ والاختلالات المجتمعية, وتسهم في زيادة الاستقطاب السياسي والمجتمعي, وتعكس النعرات والانقسامات المجتمعية الطائفية والعرقية منها, لا تصب بأي حال من الأحوال في مصلحة الوطن ولا في مصلحة قوة المجتمع وتماسكه. والدرس الذي يجب أن نستوعبه الآن أن مسألة التوظيف الديني بما تحمله من تداعيات وآثار مجتمعية بالغة السلبية امتدت بآثارها تلك إلي الساحة السياسية لتزيد من تكلفة السكوت علي عملية خلط الأوراق منذ فترة ليست بالقصيرة, فكان تغيب القانون واستغلال الظروف الاقتصادية والاجتماعية وقبل ذلك استغلال المكون الديني ونصيبه الكبير في الشخصية المصرية من أجل أهداف سياسية واجتماعية ووجاهة مجتمعية دافعا لاستمرار هذا التوظيف وتعدد أدواته وأهدافه. ويجدر الذكر هنا, أن مسالة توظيف الدين في العمل الأهلي واستغلاله مسألة ليست بالجديدة, ويمكن ربطها بالمراحل الأولي للعمل الأهلي في مصر, ولكن الجديد هنا يرتبط بتغير وتعقد البيئة المحيطة بالعمل الأهلي وتشابك العديد من العوامل الداخلية مع العوامل الإقليمية والدولية, وبالقدر الذي زاد من الضغوط الدولية والإقليمية علي الدولة, وطرح معها قضايا وتحديات كبيرة تتعلق بمفهوم سيادة الدولة والأمن القومي من خلال مظاهر تتعلق بالتمويل الأجنبيي( عربي وأجنبي) وتسييس ملف حقوق الإنسان وجعله مخلب القط للتدخل في شئون الدول. وهنا يجب تأكيد مجموعة من الملاحظات الأساسية, منها: أن عشوائية دور المجتمع المدني في مصر وعدم اكتمال بنائه وترسخه, جعلتنا نتأثر بسلبياته أكثر من التمتع بإيجابياته, فدوره في مجال التنمية والديمقراطية ظل قاصرا عن دفع عجلة البناء المجتمعي, كما برز عدم قدرته علي صهر وإدارة التعددية المجتمعية والاستفادة منها وتعظيمها كقوة وثراء للدولة المصرية, كذلك برزت سلبياته كطرف متلق أكثر من كونه قادرا علي التفاعل والتأثير في مظاهر العولمة الدافعة لصياغة عولمة القضايا الإنسانية وما اكتسبته المنظمات الدولية غير الحكومية من ظهور كفاعل ولاعب رئيسي في صياغة التفاعلات الدولية. كما أن عدم اكتمال بناء المجتمع المدني وتعثره, أفرز قدرا من التشوه في بنائه لاسيما فيما يتعلق بالمسئوليات والقيم الواجب ترسيخها, كما أنه لم يستطع أن يتكامل مع منظمات المجتمع الأهلي( الجمعيات الأهلية علي سبيل المثال) بالقدر الذي يساعد علي تقوية المنظمات الأهلية ودورها القاعدي تجاه القضايا التنموية والحقوقية, لتظل حالة الانفصام( مع استثناءات محدودة) بين منظمات المجتمع الأهلي ومنظمات المجتمع المدني شاهدا علي عدم القدرة علي توظيف موارد وقدرات المجتمع وتنظيم تفاعلاته تجاه البناء والنهوض. الواقع أن تعدد أشكال التوظيف السياسي والتوظيف الديني, يبدو كمرآة عاكسة للعديد من السلبيات والمشكلات المجتمعية المرتبطة بالجماعة والنخبة السياسية والاجتماعية من ناحية, وانعكاسا لانقطاع عملية بناء المجتمع المدني من ناحية ثانية, وتأثرا بحالة الركود السياسي التي عاشتها مصر لفترات طويلة وعدم القدرة علي بناء نظام ديمقراطي من ناحية ثالثة, وتدخل الدولة وتوظيفها لمؤسسات المجتمع الأهلي كأداة من أدواتها من ناحية رابعة, وضعف المكون الثقافي والقيمي في العمل الأهلي من ناحية خامسة. وهنا يمكن الإشارة إلي ثلاثة نماذج مختلفة في درجة التوظيف الديني وامتداده للمجال السياسي, الأول تمثله جماعة الإخوان المسلمين التي سعت وبقوة ومنذ تسعينيات القرن الماضي إلي اختراق الجمعيات الأهلية والنقابات كبديل للنفاذ والوجود بعد انغلاق ساحة العمل السياسي أمامه, أما النموذج الثاني فيرتبط بالحزب الوطني المنحل وبعض رموزه, أما النموذج الثالث فيعكسه بعض رجال الأعمال. هذه النماذج الثلاثة تتفق فيما بينها في استغلال حاجة المواطنين لتلبية احتياجاتهم الأساسية, وكيف تم استغلال وتوظيف المكون الديني والثقافي في تحقيق مكانة اجتماعية وإيجاد كوادر وقيادات اجتماعية تستطيع حشد وتعبئة الجماهير في الانتخابات وغيرها من مظاهر الدعم السياسي لتيار أو فصيل أو حتي أشخاص بعينهم. انطلاقا من هذا الواقع, ووجود أشكال عديدة من التوظيف, يبقي الحديث عن المستقبل مرتهنا بالقدرة علي تجاوز النظرة القاصرة علي معالجات محدودة, فالقضية أكبر من مجرد حصرها في مراجعة ارتباطات الجمعيات الأهلية بقوي سياسية تدعم العنف والإرهاب, فمتطلبات بناء مجتمع مدني وإعادة تنظيم المنظمات الأهلية كقوة مجتمعية تتطلب إصلاحا تشريعيا يشمل كل القوانين الخاصة بالجمعيات الأهلية والنقابات والتعاونيات والمحليات وغيرها لتأكيد دور المجتمع والمواطن في محاصرة الأفكار المتطرفة وعزلها وتصحيح مسارات واتجاهات العمل الأهلي باتجاه تنموي داعم لتلبية الاحتياجات الأساسية للمواطنين, وحاميا لمنظومة القيم الأصيلة للشخصية المصرية ذات العمق الحضاري. كما تتطلب أيضا رؤية واسعة لطبيعة الأدوار والمسئوليات الحاكمة لعلاقة الدولة بالمجتمع في ظل ظروف اقتصادية واجتماعية شديدة القسوة علي العديد من شرائح المجتمع ومتطلبات بناء ونهوض تفترض الاهتمام ببناء الإنسان وتوفير المقومات الداعمة لبناء دولة ديمقراطية حديثة. لمزيد من مقالات أيمن السيد عبد الوهاب