تشير مسودات مشاريع القوانين الخاصة بالجمعيات الأهلية, منذ تجربة إعداد القوانين153 لعام1999, و84 لعام2002 حتي الان الي انحصارها بين رؤيتين وفلسفتين لا ثالث لهم, الأولي ترتبط برؤية حكومية تحرص علي استمرار الجمعيات الأهلية ذراعا وآلية لسد الفجوة الناتجة عن تراجع الدور الحكومي في تقديم الحاجات الأساسية للمواطن. وان لم يمنع ذلك إعطاء بعض المساحات المنتقاة من قبل الحكومة والجهة الإدارية لبعض الأدوار التنموية والحقوقية تحت وطء الضغوط الداخلية والخارجية. أما الرؤية الثانية فتتركز علي رؤية يغلب عليها الطابع الحقوقي الداعم للمعايير الدولية والهادف للتصدي لعملية استهداف ومحاصرة المنظمات الحقوقية من قبل النظام الحاكم, ولذا جاءت هذه الرؤية علي النقيض من الرؤية الحكومية فهي تسعي لترسيخ دورها بعيدا عن قبضة الجهة الإدارية والجهات الأمنية وتحدد المعايير الواجب توافرها في القانون حتي يكون محفزا وداعما للجمعيات الأهلية وينطلق بها في مساحة اكبر وأوسع من الدور الاهلي المقصور علي العمل الخيري والرعائي الي الدور المدني الأوسع الذي يشمل الي جانب العمل الخيري والرعائي الدور التنموي والحقوقي. والحقيقة إن انحصار الكثير من مسودات المشاريع المقترحة حاليا بين هاتين الرؤيتين مع بعض الفروق البسيطة, تعيدنا الي مشاهد ما قبل ثورة يناير. مشاهد يغلب عليها استمرار الجدل حول علاقة الدولة بالمجتمع المدني من ناحية, وحدود الرهان علي المجتمع المدني تجاه قضايا التنمية, والمشاركة المجتمعية من ناحية ثانية, وموقع المواطن من معادلة البناء والمشاركة من ناحية ثالثة. فالقضية ليست مجرد صياغة مواد قانونية تعبر عن مخاوف وهواجس قد يكون بعضها صحيحا, أو فرض مواد لمحاصرة أنشطة أو حتي تميز أنشطة وأنماط من العمل الاهلي علي حساب أنماط أخري, في مقابل صياغة مواد تعبر عن أمال ونقله نوعية مطلوبة في الفلسفة والقيم والأدوار لكافة مكونات التنظيمات الأهلية. المطلوب الان هو تجاوز الكثير من المخاوف الناتجة عن أزمة الثقة, ومناقشة الرؤي الداعمة لاستمرار تغليب الأدوار التقليدية والأنماط كسمة غالبة وربما وحيده لدور الجمعيات الأهلية في المرحلة القادمة, حتي يمكن صياغة رؤية مستقبلية للمجتمع المدني تتوافق مع أهداف ثورة يناير من خلال مواجهة العديد من مظاهر العشوائية والاختلالات والأنماط السلبية القائمة المرتبطة بالعمل الاهلي, لا أن يتم الانقضاض علي المساحة الصغيرة التي استطاع النشطون والقائمون والداعمون للعمل الاهلي تحقيقها عبر فترات ممتدة من الصراع بين السلطة والمجتمع. فالحاجة لادوار العمل الاهلي التقليدية من عمل خيري وتقديم مساعدات ورعاية اجتماعية وقيم خاصة بالكفالة والتضامن لا تلغي الحاجة بل علي العكس الملحة الان لدعم النمط التنموي والحقوقي للعمل الاهلي وما يرتبط به من قيم مثل المسئولية الاجتماعية والمواطنة والتسامح والحوار والعدل, فالتكامل بين تنظيمات المجتمع الاهلي ومنظمات المجتمع المدني لابد أن تكون واحدة من الركائز الأساسية التي يجب أخذها في الاعتبار في تلك المرحلة الانتقالية لدمج موارد وقدرات وخبرات المجتمع الاهلي مع المجتمع المدني. فلا يجوز في هذه اللحظة الحرجة التي تمر بها الدولة المصرية, أن تتغلب فيها الحسابات السياسية فقط, ولا أن تحكمنا رؤي لديها هواجس أو انحيازات أيديولوجية ترتبط بادوار المجتمع المدني أو تحت لفظ مدني, فالمطلوب الان دعم النمط التنموي والحقوقي للحاجة الشديدة لتعظيم موارد وقدرات المجتمع المدني كشريك تنموي مع الحكومة والقطاع الخاص, ومطلوب أيضا تفعيل الأنماط الحقوقية ليس بدعم المنظمات الحقوقية فقط, ولكن بان تكون القيم والثقافة الحقوقية بمثابة ركيزة لكافة أنشطة وبرامج العمل الاهلي, وذلك لتعظيم قيمة المواطنة وتفعيل دور المواطن في تحمله مسئولية البناء في المرحلة الراهنة. وبالتالي, يبقي التحدي الراهن مرتبطا بقدرة الحكومة علي إعادة النظر في الفلسفة الحاكمة لها ونظرتها للمجتمع المدني ككل, وليس الجمعيات الأهلية فقط وان يعكس ذلك في صياغتها لمجموعة القوانين المباشرة مثل قانون النقابات والتعاونيات والمحليات علي سبيل المثال. والي جانب متطلبات ترسيخ أركان المجتمع المدني وتحقيق الشراكة مع القطاعين الحكومي والخاص, فان الثورة فرضت مطلبا أخر يجب أخذه في الاعتبار عند صياغة القوانين الخاصة بالمجتمع المدني, ويتمثل هذا المطلب في إعادة تنظيم قوي المجتمع وتشكيل حافز حقيقي للقوي الشبابية للانضمام لمؤسسات ومنظمات المجتمع المدني لمعالجة حالة الإحباط والعشوائية والسيولة التي يستشعرها الشباب نتيجة حالة الفوضي التي تفرض نفسها علي الساحتين السياسية والمجتمعية منذ ما يقرب من عامين. وهنا يمكن التأكيد علي منهج الديمقراطية التشاركية فلسفة حاكمة للقانون الجديد ومدخلا لحل العديد من المشكلات المحيطة بالعمل الاهلي, لا أن يتم الاكتفاء بآليات إدارية وأمنية, وان تمثل سمات مثل: فتح مجالات العمل, وتسهل إجراءات التسجيل, وعدم تغليظ العقوبات, وجعل القضاء فيصلا, مكونات أساسية لصياغة قانون محفز للعمل الاهلي. هذه المنهجية وتلك السمات ستظل مجرد أمال وأمنيات ما لم يعالج القانون الجديد للجمعيات عددا من الظواهر السلبية التي تحيط بيئة العمل الاهلي في مصر, منها: ان تتحول السمات السابقة من مجرد بنود في قانون الي ممارسات واقعية, وان تتقلص نسبة اعتماد المنظمات الحقوقية علي التمويل الاجنبي والتي تصل الي نسبة مائة في المائة, مواجهة تزايد التمويل الخليجي لدعم أنماط من العمل الاهلي, ومواجهة تنامي الدور السياسي للجمعيات الأهلية الي مساحات اكبر من التوظيف السياسي, واستحواذ الجمعيات الأهلية ذات السمة الدينية علي النصيب الأكبر من المتطوعين. القضايا السابقة والتي تمثل نوعية من المشكلات تطرح أهمية المكون الثقافي وعلاقته برؤية المجتمع للعمل الاهلي, وضرورة أن يدعم القانون الثقافة الحقوقية والتنموية بالقدر الذي ينعكس علي تعبئة موارد المجتمع بعيدا هواجس الدعم الخارجي وباتجاه دعم كافة أشكال وادوار المجتمع المدني.