هناك قصة طريفة تروي عن أستاذ الجيل أحمد لطفي السيد باشا. ولا أدري ان كانت أحداثها قد وقعت بالفعل, أم أنها نسج خيال أراد به بعض أصدقاء الاستاذ الذي تزعم الدعوة للاستقلال الكامل عن انجلترا وتركيا معا وتحمس للديمقراطية, وترجم أرسطو ان يرسموا فيها صورة له ولخصومه تعبر عنه وعنهم بدقة إلي الحد الذي لا نستطيع معه أن ننكرها أو نشك في صحتها. تقول القصة إن مفكرنا الكبير رشح نفسه لعضوية الجمعية التشريعية عام1913, فأشاع عنه منافسه في الانتخابات, عثمان سليط, وهو أحد أعيان مركز السنبلاوين, وكان عضوا في حزب الأمة الذي كان لطفي السيد زعيما من زعمائه ثم خرج عليه تقربا من الخديو عباس حلمي الثاني أقول ان خصمه هذا أشاع عنه أنه ينادي بالديمقراطية, وكانت الديموقراطية كلمة غريبة بالنسبة لجمهور الناخبين الريفيين الذين سألوا عثمان سليط: وماذا تكون هذه الديموقراطية يابك؟ قال لهم: انها والعياذ بالله دعوة إباحية للتحلل من الأعراف والتقاليد المرعبة والخروج علي قواعد الدين الاسلامي الحنيف! وقد استغرب الناخبون البسطاء أن يكون لطفي السيد مؤمنا بهذه الأفكار داعيا لها, فقرروا أن يسألوه في اجتماعه بهم! هل صحيح يابك أنك ديموقراطي؟ وقد أجابهم المفكر الكبير علي الفور! نعم بلا شك. أنا ديموقراطي, أدين بالديموقراطية, وأدعو للديموقراطية! وخيم الصمت علي الجميع, وأخذوا يتبادلون النظرات المستنكرة, ثم انسلوا خارجين واحدا بعد الآخر. وسقط لطفي السيد في هذه الانتخابات بجدارة! وقد قرأت في بعض ما صدر من مؤلفات عن حياة أستاذ الجيل أنه أنكر هذه القصة, وأعلن أنها لم تحدث. لكني برغم إنكار بطلها الأول لها أصدقها, ودليلي علي صحتها أنها تتكرر في أيامنا هذه بعد مرور قرن كامل علي وقوعها المشكوك فيه, ولكن حول كلمة أخري هي العلمانية التي يبدو لي أن الكثيرين منا يجهلون معناها, لأنهم يعرفونها عن طريق الشائعات التي تعودوا بإرادتهم أو برغم أنفهم أن يعرفوا عن طريقها ما لا يستطيعون الوصول إليه من المعلومات والحقائق بطرق أفضل تسمح لهم بمراجعة ما يصل إليهم والتأكد من صحته. ومن المؤسف أن الأمية بأنواعها مازالت تفتك بالملايين من المصريين الذين يحق لهم أن يدلوا بأصواتهم في الانتخابات, دون أن تمكنهم قدراتهم من النظر في برامج المرشحين أو التمييز بين ديموقراطية حقيقية واستبداد صريح أو مستمر, وليس لهم في هذه الحالة إلا أن يصدقوا الشائعة, أو يأخذوا بالمظهر, أو يستجيبوا للضغط, أو يقبلوا الرشوة, ومن هنا لم أستغرب أن يلومني قاريء حسن النية بعد أن رآني أتحمس للعلمانية التي قال له عنها المتاجرون بالدين والسياسة ما سبق أن قاله خصوم لطفي السيد لأهالي السنبلاوين عن الديمقراطية! وأكثر مدعاة للأسف أن يسيء المصريون الظن بالعلمانية وهم من أكثر شعوب العالم حاجة إليها. لأن العلمانية هي النظام الذي يضمن الحرية ويحفظ الكرامة للفرد والجماعة, ويمكن الناس من إصلاح الدنيا. والمصريون أحوج ما يكونون للحرية والكرامة وإصلاح الدنيا. العلمانية هي فصل الدين عن الدولة, حتي لا يتحول الدين الي سلطة غاشمة تفتش في الضمائر وتملي علينا ما يتفق مع مصالحها ويحقق أطماعها. وحتي لا يتحول الحكام من ناحية أخري الي آلهة أو أنصاف آلهة يحكمون اغتصابا, ولا يخضعون للمراقبة, ولا يستمدون سلطتهم من الأمة. العلمانية إذن شرط لا تتحقق الديموقراطية إلا به. والديموقراطية هي النظام الذي يسمح لنا بأن نضع القوانين التي تحقق مصالحنا, وأن نشارك في تسيير النشاط العام, ونصحح مساره, ونحقق أهدافه من خلال مؤسساتنا الشرعية, وقد رأينا ما صنعه بنا الطغيان, ونحن إذن أحوج ما نكون للديموقراطية, أي أننا أحوج ما نكون الآن للعلمانية. العلمانية اذن ليست ترفا فكريا, وإنما هي حاجة حيوية ودواء لا يعوضنا عنه دواء آخر. وإذا كانت العلمانية تفصل بين الدين والدولة, فالعلمانية تحفظ للدين مكانه الرفيع, وتمكنه من أداء رسالته السامية, وتحول دون استغلاله كما لابد أن يحدث اذا سمحنا للحكام بأن يزعموا أنهم حماة الدين أو ظلال الله علي الأرض, أو المكلفون بتطبيق أوامره ونواهيه. وليس أمامنا إلا أن ننظر حولنا لنري كيف ترتكب أبشع الجرائم في ظل النظم التي تزعم أنها قامت باسم الاسلام, ولنعلم إذن أن العلمانية هي التي تحمي مصر من هذا المصير المظلم! هل ترون في هذا النظام الذي يضمن لنا حريتنا, ويحفظ كرامتنا, ويمكننا من إصلاح دنيانا مساسا بالأخلاق الفاضلة أو خروجا علي العقائد الدينية؟ أليست هذه المنافع وهذه الغايات التي تحققها العلمانية هي المنافع والغايات التي تسعي لها الديانات وترتضيها المثل العليا والأخلاق الفاضلة؟ فإذا سألني سائل: وماذا عن تطبيق الشريعة وإقامة الحدود؟ قلت له: ارجع الي ما صنعه ابن الخطاب في عام المجاعة الذي أوقف فيه حد السرقة. وبين لي أنت حضرتك كيف يمكن أن تتحقق الشروط المطلوبة لإقامة حد الزنا, حتي نقيم هذا الحد؟ الايلاج الكامل ولا مؤاخذة! والشهود الأربعة العدول, وعدم الترصد؟! ونحن نعرف أن هذه الحدود لا تخص الاسلام, وإنما كانت موجودة من قبل, وقد أخذها المسلمون عن غيرهم, حد السرقة كان معمولا به في مصر القديمة, والرجم عقوبة يهودية, وكان العراقيون القدماء يغرقون الزاني في النهر, فمن الطبيعي أن يكون الرجم بالحجارة هو طريقة الاعدام في الصحراء, والمقصود من اقامة الحد ضرب المثل وكف الشر عن المجتمع. وفي القوانين الحديثة ما يحقق هذه المقاصد. بقيت كلمة عن أصل الكلمة. هل العلمانية من العلم بكسر العين كما يري الأستاذ فاروق القاضي مؤلف الكتاب, أم من العلم بفتحها؟ في اعتقادي أن العلمانية مصدر صناعي من علم, والعلم هو العالم, أي الدنيا التي ينتسب لها عامة الناس في المجتمعات المسيحية ممن لم ينخرطوا في السلك الكهنوتي. رجال الدين في المسيحية لا ينتمون للدنيا وليسوا منها وإن كانوا فيها, وإنما ينتمون لمملكة السماء ويقودون عامة الناس إليها. لكن الكنيسة لم تخلص لمملكة السماء ولم تكتف بها, وإنما تسلطت علي الدنيا فقامت العلمانية لترد طغيان الكنيسة وتفصل السلطة الدينية عن السلطة السياسية التي يجب أن يتولاها العلمانيون وهم عامة الناس. هذا التطور لم يحدث عندنا كما حدث في أوروبا, لأن الاسلام ليس فيه سلطة دينية تتميز عن السلطة السياسية, لكن هذا لم يحمنا من الطغيان, وإنما أدي الي أن يجمع الحكام المسلمون في أيديهم بين السلطتين, وبهذا كان طغيانهم أشمل وأقسي, وكانت حاجتنا للضرب علي أيديهم والفصل بين الدولة والدين أشد.