غدا... تحتفل مصر ولمدة أربعة أيام بالعيد الأربعين بعد المائة علي إنشاء' الكتبخانة' أو دار الكتب والوثائق القومية المصرية وسط حشد كبير من مثقفي العالم العربي والإسلامي والغربي. ولا عجب في أن يقوم بر مصر كله بالإحتفال, فلدي دار الكتب تاريخ طويل يجمع كل هؤلاء في حفل واحد. فالدار عربية شرقية صممت علي طراز دور الكتب الوطنية الأوربية. وأما التاريخ الخاص بالدار فهو واحد من أهم الأحداث التي تسكن الذاكرة الوطنية المصرية. فقد بدأت القصة بميلاد' الكتبخانة' في السادس والعشرين من سبتمبر عام1870 في سراي مصطفي فاضل بدرب الجماميز بعد صدورالأمر العالي رقم66 إلي علي باشا مبارك ناظر المعارف وقتها في الثالث والعشرين من مارس من نفس العام بجمع المخطوطات والكتب المهمة من المساجد لتأسيس أول دار للكتب تجمع تراث الأمة المصرية. ففي ذلك الزمن كانت فكرة القومية المصرية قد نضجت وأصبحت واضحة في كل كتابات أصحاب الفكر. فصحيح أننا نتحدث عن عصر الأسرة العلوية التي جاءت لترث ما وضعه محمد علي كأساس لحكم مصر. وصحيح أنه في كل زمن يوجد الصالح والطالح وأنه من بين أفراد هذه الأسرة الحاكمة من أضاف إلي فكرة الحاكمية المصرية الوسطية المعتدلة وإن من بينها أيضا من جاء لينتقص من رصيد هذه الأسرة عند جمهور المصريين,الا اننا لابد أن نؤكد أن المصريين لم يكونوا مجرد وجوه تظهر في خلفية الصورة. فقد كان المصريون علي موعد مع البعثات إلي أوروبا للوقوف علي أوجه الحياة الحديثة والحضارة التي كانت في أشد سنوات عنفوانها في القرنين التاسع عشر والعشرين. وإذا كان الشيخ رفاعة الطهطاوي قد أعتبر فتحا مصريا في حد ذاته فقد جاء من بعده كثيرون ليؤكدوا فكرة تقدم مصر علي أيدي أبنائها و منهم بالطبع علي باشا مبارك بطل قصتنا. فهذا المهندس والعالم قد زامل الخديو إسماعيل في بعثة الانجال المصرية إلي باريس و هو حلقة تالية لفكر رفاعة الطهطاوي باعتباره مهندس الثقافة والتعليم في مصر الذي رأي انه قد حان الوقت لكي تقتني مصر كتبخانة ضخمة تضم كل كتبها ومخطوطاتها علي غرار دور الكتب الوطنية الأوروبية التي أنبهر بها الخديو إسماعيل في أثناء وجوده بباريس. * تولد فكرة الكتبخانة المصرية في1870 وبعدها بستة عشر عاما تعلن سراي الأمير مصطفي فاضل عن عدم مقدرتها علي تحمل المزيد من الكتب والمخطوطات وتضج الجدارن بمحتويات المكان فلا تري الحكومة المصرية بدء من إنشاء مكان مستقل للكتبخانة المصرية. ويقرر الخديو عباس حلمي أن يستكمل حلم سلفه ليجمع بين الآثار العربية والكتبخانة في مكان واحد, والغريب أن الكتبخانة التي ضمت نفائس المخطوطات العربية والتركية والفارسية بالإضافة إلي أهم كتب الفكر الإنساني كانت متاحة للجمهور منذ بداية إنشائها مثل كثير من المشروعات الحضارية الكبري التي ولدت في عصر الخديو إسماعيل مثل الحدائق التاريخية. فلم تكن الثقافة حقا مكفولا للنخبة فقط بل كان المقصود الدفع بدماء مصرية من المعممين والمطربشين و أفنديات الثقافة الجدد الذين نجحوا في صنع ثقافة مصرية أصيلة. وتستمر الكتبخانة أو دار الكتب والوثائق القومية- كما استقر علي أسمها بعد ثورة1952- في تنفيذ مهمتها وفي بداية الستينات تستقر الحكومة علي إختيار منطقة كورنيش النيل برملة بولاق كمكان جديد وتفتح أبوابها عام1971 وتضاف إليها قاعات للإطلاع. وإن كان هذا لم يعن وبأي حال إغفال المبني القديم بباب الخلق الذي لايزال محتفظا بوجوده مع متحف الأثار العربية الذي أصبح فيما بعد' متحف الفن الإسلامي'. متحف الأمة المصرية أما عن التعديلات الأخيرة لمبني دار الخلق أو المبني القديم فقد أكتملت مع افتتاح المبني مرة أخري في فبراير2007 بعد سنوات من الترميمات. وقد أتاح الافتتاح الاخير للمبني فرصة أفضل لمقتنيات دار الكتب. ويقول د.محمد صابر عرب رئيس الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية: كما هو معروف ولدت هذه الدار في سبعينات القرن التاسع عشر مع ميلاد نخبة ثقافية مصرية في وقت كان الغرب قد عرف إنشاء مكتبات مركزية. وكان الخديو إسماعيل يريد إعادة إعمار القاهرة علي النمط الفرنسي ولهذا قدم علي باشا مبارك فكرة الكتبخانة الخديوية مستشهدا بالمكتبة الفرنسية في باريس. والأمير مصطفي فاضل هو شقيق الخديو إسماعيل الذي قد شارك في الفكرة بقصره بمنطقة درب الجماميز في السيدة زينب بالإضافة إلي مكتبته الخاصة وهو ما دعا الكثير من أفراد الأسرة العلوية للتأسي به ثم جاء دور المصريين أو الشعب الذي شارك مشاركة حقيقية في إثراء هذه الدار. أما أهم المخطوطات فهي الشاهنامة أو كتاب الملوك وديوان يوسف وزليخة. كما توجد بالدار أكثر من3 آلاف بردية شاهدة علي تاريخ مصر منها عقود زواج وعتق وحبة قمج كتب عليها تاريخ حكام مصر ونماذج من أوائل المطبوعات كالقرآن الكريم والتوراة وألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة. بالإضافة إلي مطبوعات حكومية ووثائق للأمم المتحدة وأوائل الدوريات والصحف القديمة مثل اللواء والمقتطف وأنيس الجليس والتنكيت والتبكيت وألبومات ولوحات ونوت موسيقية وأسطوانات وعملات ومكتبات خاصة ومحصلة كتب تصل إلي4 مليون كتاب. متحف غير تقليدي و تقول د. ليلي جلال رزق المشرف العام علي دار الكتب بدار الخلق: بالفعل توجد الكثير من مقتنيات الدار التي يمكن أعتبارها إنفرادات ثقافية وحضارية. تم إعادة تنظيم قاعة العرض المتحفي بوضع سيناريو جديد يقسم منطقة العرض إلي أقسام رئيسية منها المخطوطات العلمية والدينية والبرديات والخرائط والخط العربي والمسكوكات والمصاحف النادرة وأوائل الكتب المطبوعة والوثائق والفرمانات والمصاحف وروائع التجليد ومخطوطات العلوم الإنسانية وعجائب التحف بالإضافة إلي قسم بأسم المخطوط في العالم الإسلامي خاص بفن الخط والكتابة والترميم. وتضيف د. ليلي جلال: تم إستحداث أقسام خاصة بروائع التجليد والادوات الفلكية وإعادة ترتيب العملات والمسكوكات إلي جانب فترينة خاصة بتجليد مصحف شريف مصنوع من الفضة وزنه مائة وخمسين كيلو جرام! ولكي تتم هذه الإضافات كان لابد من الاستعانة بأجهزة قياس للرطوبة والحرارة وتبديل قاعدة الفترينات بمواد لا تؤثر علي المخطوطات ووجود سبع ماكينات إلكترونية تعمل باللمس علي الشاشة لتقليب صفحات المخطوطات. وتجري تعديلات هندسية, وسيتم تأمين القاعة بعدد من الكاميرات تصل إلي49 كاميرا. خطط مستقبلية ويري د. عبد الناصر حسن رئيس الادارة المركزية لدار الكتب المصرية أن هناك قائمة من التجديدات والمستجدات منها وحدة لتكنولوجيا المعلومات بدأت عملها منذ عام ونصف. كما اننا في سبيلنا لإنشاء وحدة للجودة وتطوير الماسح الضوئي من أجل عمليات المسح للدوريات والمخطوطات والبرديات. وبالنسبة لإدارة الشئون الفنية فقد تحولنا من نظام قديم في الادخال إلي نظام أحدث. وقد أستخدمنا منذ عامين نظام الفهرسة أثناء النشر وتعتبر خدمة للمتعاملين مع الدار والذين لديهم إستفسارات. وفي المستقبل نسعي لإعتماد الامضاء الالكتروني وهي خدمة جديدة. كما قررنا أن نستفيد من مخازن دشت البرديات والمخطوطات والتي قام العاملون بترميم بعض بردياتها وأعادتها إلي صورتها الأولي الكاملة وهو ما أضاف إلي مقتنيات الدار. وتسعي إدارة المخطوطات الأن إلي تبادل صور المخطوطات مع المكتبات العالمية كمكتبة الاسكوريال في أسبانيا وآيا صوفيا في تركيا. * أختارت دار الكتب المصرية أدباء ومفكرين كبار لهم ثقلهم الأدبي والحضاري ليتحدثوا عن ذكرياتهم التي أصبحت مع الوقت شهادات يدلي بها اصحابها. وهذه الشهادات تبدومصرية خالصة برغم ان بعض من تحدثوا لم يكونوا أصحاب أصول مصرية ولكنهم تمصروا كما هوالحال بالنسبة لأكمل الدين إحسان أمين عام منظمة المؤتمر الإسلامي الذي عمل والده في الدار بعد حصوله علي درجة العالمية بالازهر واستقراره في مصر. فكان عمله بالدار إحدي دلائل القبول المصري لمن أرادأن يعيش علي أرضها. وهناك أيضا حالات خاصة وإستثنائية جدا لأدباء ومفكرين لم يتح لهم أمتاعنا بشهاداتهم. فقد رحل أصحابها عن الحياة وإن كانت أفكارهم لا تزال باقية. فالبعض قد لا يتصور ان كتابا في حجم أستاذ الجيل أحمد لطفي السيد أوالكاتب الكبير توفيق الحكيم قد عاشوا داخل هذه الدار وأغتنموا فرصة وجودهم ليضيفوا إلي رصيدهم الشخصي, فالحياة في بر مصر علي ما يبدوكان يمتد فيها العمر ليعيش الكاتب والمفكر أكثر من تجربة ملهمة. وأول هؤلاء هوالكاتب والمفكر أحمد لطفي السيد الذي أمتدت به تجربة العمر ليصل إلي التسعين. فهومن مواليد عام1872 وتوفي عام1963 وهوما يعني أنه عاش في زمن شديد الثراء في تجربته المصرية الليبرالية. وهوأول مدير مصري لدار الكتب وقد تحقق هذا الحلم عام1915, ليصبح هذا المنصب واحد من عدة مناصب أستطاع أن يصيبها بفكره المستنير, فهوإلي جانب رئاسته لدار الكتب أصبح مديرا للجامعة المصرية والتي استقال منها عندما قرر وزير المعارف عزل د. طه حسين من عمادته لكلية الآداب ووزيرا للمعارف ورئيسا لمجمع اللغة العربية. ورغم أن الناس في مصر قد تذكر إلي الان مقولة شهيرة وضعت بعناية في كتبنا المدرسية وهي: مصر للمصريين فإن له مقولة أخري شهيرة وهي: من أراد الدنيا فعليه بالعلم ومن أراد الآخرة فعليه بالعلم ومن أرادهما معا فعليه بالعلم. أما مواقفه فهي كثيرة وان كانت مقولة مصر للمصريين لم يكن في حقيقة الأمر البادئ بها, فقبله بزمن وقبل ثورة عرابي كانت هذه المقولة معروفة في المجتمع المصري. ولكن موقفه المؤيد للاستقلال وتغيير الدستور جعلت الملامح المصراوية أكثر وضوحا في كتاباته. فقد أراد الاستقلال من كل شئ يعلق بالثوب المصري ويدنسه فلم يأبه للخديو وأراد من خلال صحيفته' الجريدة' أن يدعم مبادئ الديمقراطية الحقيقية وأن يوضح مبادئها أمام الجميع. وأما الشاعر الكبير أحمد رامي فهو ابن أخر للدار أكثر إرتباطا بالمكان. فقد عمل بالدار لأكثر من ثلاثين عام ولم يحقق تقدما وظيفيا مبهرا, ورغم راتبه المتواضع فقد كانت دار الكتب أكبر من ساند إيفاده إلي باريس حيث درس فنون المكتبات بدار الوثائق الفرنسية ثم عاد إلي مصر ليعمل بقسم الفهارس الأفرنجية بالدار. وربما كانت هذه البعثة التي أستغرقت عامين أحد أسباب إتقان رامي للغة الفارسية بعد حصوله علي دبلوم في الدراسات الشرقية. فقام بترجمة رباعيات الخيام التي سبق وترجمها الشاعر البريطاني الكبير فيتزجيرالد إلي الأنجليزية وغنتها أم كلثوم التي كتب لها إلي جانب الرباعيات136 أغنية من أهم أغانيها. وكان أفضل من كتب المونولوج في تاريخ الأغنية المصرية. ويذكر النقاد أن دار الكتب قد أمنت لرامي العائد الوظيفي الذي جعله يتفرغ للشعر. كما أنها عمقت معرفته بالكثير من الشعراء ومنهم شاعر النيل حافظ إبراهيم الذي قاسمه اهتمامه بالدار والشعر. فقرأ رامي وحافظ إبراهيم كل ما كتب شعراء أمثال الشريف الرضي وأحمد شوقي والخيام وحافظ الشيرازي. وبالنسبة لأستاذ المسرح المصري توفيق الحكيم فقد عمل هو الآخر في دار الكتب. فهذا المبدع الذي كان لثورة1919 أكبر تأثير عليه, كان أستاذا أيضا في الرواية. فيكفي روايته' عودة الروح' التي تحكي قصة اسرة مصرية بسيطة تعيش بحي السيدة زينب وتطلق علي نفسها أسم' الشعب'. وهي قصة حب بسيطة لم تكن بطلتها سنية التي أحبها كل أفراد الاسرة ووجدوا فيها صورة عروس أحلامهم. الا أنها في النهاية لا تختار أيا منهم وتفضل جارهم مصطفي ويكتشف الشعب في النهاية أن المحبوبة الحقيقية هي مصر بلادهم. وتوفيق الحكيم الذي كتب أفضل مسرحيات للمسرح العربي واسس أرضية قوية للمسرحيين المصريين إلي جانب مشواره الروائي قد تولي المسئولية في الدار عام.1952 ولا توجد بالفعل الكثير من الوثائق التي تحكي لنا بالتفصيل عن فترة عمله. فقد كان وجوده الثقافي والجدل حول شخصيته هوما يخطف الابصار ويجذب الاسماع. أما الشاعر المتميز صلاح عبد الصبورفقد كان تجربة فريدة في حد ذاتها. فمنذ صدر ديوانه الأول' الناس في بلادي' عام1957 وحياته سلسلة من المفاجأت ربما كان أخرها رئاسته للهيئة العام للكتاب التي تقاسم دار الكتب المكان والاهتمامات. وهوالمنصب الذي أجهده كثيرا وجعله عرضة للكثير من الانتقادات ومنها بالطبع الانتقادات السياسية التي لم يسلم منها الشاعر وعجلت من ألمه ورحيله المبكر في الخمسين من عمره. ويبقي أفضل ما قدم الشاعر صلاح عبد الصبور- صاحب أفضل مسرحيات شعرية في فترة الستينيات والسبعينيات-ما أشار إليه الكاتب الروائي خيري شلبي من وضع عبد الصبور لخطة طموحة لإعادة نشر التراث العربي ومواكبة الأدب العالمي بالترجمة ووضع الأدباء الشباب علي خريطة الحياة الأدبية. وهكذا تنتهي هذه السطور وإن ظلت الكثير من التجارب الفكرية داخل دار الكتب مجهولة. وكثير من المكتبات المهداة صاحبة تاريخ كبيركالمكتبة التيمورية ومكتبة قولة ومكتبة فؤاد سيزكين, لايعرف عنها الكثير.