ماذا لو تحدثت الأحجار؟! علامة استفهام تلاحقني كلما أُخذت بروعة اثر أو وقفت مشدوهة أمام بناية لم تدرج في سجلات الآثار، و أدركت أن ما سيبقي منها مجرد صور فوتوغرافية نادرة يحفظها الهواة أو صور ذهنية لم يعد لها وجود إلا في قلب وذاكرة أصحاب البصيرة. هكذا ظل الحال إلي أن استنطق المبدع جمال الغيطاني الأحجار والضوء والظلال والألوان وأبحر في فراغات مادية و أخري لا نهائية ليقدم في «تجلياته» حالة أشبه بمتتالية موسيقية يتعانق فيها تاريخ وطن و فلسفة فنون وتأملات وتهدج الصوفية و حكايات البشر . ففي» تجلياته المصرية» يبدو الغيطاني و كأنه وصل للمرفأ ولإجابة لسؤاله المزمن عن نقطتي البداية والنهاية اللتين ظل يبحث عنهما في معظم أعماله خاصة في السنوات الأخيرة . ففي دفاتر تدوينه الستة استدعي الغيطاني من الذاكرة لحظات و أماكن متفرقة متناثرة، فقفز بالزمان وقدمه وأخره طبقا لإحساسه هو، لا كما رسمته عقارب الساعة .. وفي كتابه الجديد «تجليات مصرية» يواصل الغيطاني ما بدأه في دفاتره وتتبلور الإرهاصات التي حملتها سطور كتابه استعادة المسافرخانة حيث تجاوز الغيطاني فكرة الأثر أو المعمار الغامض المثير للخيال ، وحوله لبؤرة تتداعي منها الذكريات وينطلق منها المزيد من النقاط التي تتحول بدورها لدوائر متشابكة تروي تاريخ المكان وتفاصيله و حكايات البشر وتأثير المكان عليهم وتأثرهم به.. ففي أحدث تجلياته، ومن همس الأحجار و سبحات و تراتيل لا تزال عالقة في فضاء قاهرة المعز، وعبر تأمل تفاصيل اثر واستدعاء سطور ابن إياس والمقريزي وتغري بردي ،ونثار وجد ووله ابن عربي وجلال الدين الرومي ،ومن حكايات الشوارع وذكريات عمر، تتبلور رؤية مختلفة للزمن أبعد ما تكون عن ذلك الخط المستقيم الذي يشبه قضبان السكة الحديد في دفتر تدوينه الثاني (دنا فتدلي). فمع تحرك الكاتب في فضاء مساجد ومدارس و خنقاوات وأسبلة قاهرة المعز وتأمل إيحاءات ظل ونور تشكلها فراغات ونوافذ وانحناءات جدران وخطوط ورحلة الشمس اليومية و استيعاب تفاصيل جدران ترصعها آيات قرآنية تتعانق أعلي نوافذ وأبواب وتتواصل مع أسقف و قباب فاصلة واصلة ، ومحراب و ضريح و منبر وسبيل ونافورة وماء منه كل شيء حي ، تتكشف الحقيقة و تتبلور الرؤية و فلسفة هذا المعمار الذي لخص خصوصية مصر.. فالبداية و النهاية تتمركزان في نقطة واحدة هي المركز الذي يدور وندور حوله في رحلة الزمن . فكل العناصر المرئية واللامرئية التي صادفها الغيطاني في رحلته الروحية تربط بين الفراغ الإنساني المحدود والفراغ اللانهائي الذي أبدعه الخالق ..تمزج عناصر الوجود المألوفة للحواس بالأسباب اللانهائية الكامنة ،وتروي حكاية المصري عبر العصور ومحاولته التواصل مع الكون وتجاوز حاجز الزمن و محاجاته لثنائية الروح و الجسد .. و مثلما يعبر الزائر الممرات الضيقة المظلمة قبل أن يصل للمحراب حيث الانفراجة و الرضا و تلاقي البداية بالنهاية ما بين قبة و ضريح، يتحول كل سطر في ترنيمة الغيطاني لممر كلما تقدمنا فيه تشف الرؤية و يتسرب إلي أعماق النفس المعني الكامن.. ففي غمار حالة التماهي مع هسهسات الزخارف و ابتهالات الحجر يتسرب لوعي الكاتب العلاقة بين البناء المحدود و الكون الذي لا حد له.. بين الأرض و السماء.. بين المخلوق و الخالق.. و يلتقط مفاتيح شفرة عمارة مصرية فلسفتها محاورة الكون ،والمعني الكامن في المعابد والأهرامات و الكنائس والمساجد الذي يشي بتطلع المصري عبر العصور لما يكمن وراء وجود عابر مؤقت مهما طال.... فكل باحة و ممر وقبو و قبة تحمل شفرة ، فالوجود أشبه بالدوائر المفرغة العالقة فوق الجدران و الاكتمال يتم بالرجوع دائما لنفس النقطة حيث البداية ،فالكل مسافر باتجاه المحراب حيث الوقفة النهائية .. يقول تعالي« وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ...» الانعام 94 ،.فتتجاوب الحجارة و الظلال لتردد معني كل ما ينعكس علي النفس و يردده الكاتب إذ يقول «أتوقف عند العتبة الفاصلة للدخول إلى الحيز المظلم المظلل بالعدم» «المحراب باب الروح الباب الذي يؤدي إلى كل شيء ..أمامه يقف الإنسان فردا تماما كما جاء بمفرده و كما سيمضي بمفرده ».. هكذا وعبر ارتحاله روحية في عمق الزمان و المكان ،يحلل الغيطاني شخصية مصر و يحل شفرة فنونها عبر العصور و خصوصية فن إسلامي مصري يصل الظاهر بالباطن ويروي سيرة أصحاب سلطة سجلها تأريخ رسمي وسيرة ولي حميم حفظها وجدان شعبي ، فكانت تجلياته أشبه بمعارج لروح تهفو للخالق و حكاية مصرية بحق..