فى لقائه مع السيد «شتاينماير» ، وزير خارجية ألمانيا صرح السيد نبيل فهمى ، وزير خارجيتنا ، ردا على «حث» زميله الألمانى أن تحرص مصر على «حرية» الرأى بخاصة فى وسائل الإعلام ، بأننا «فى طريقنا لذلك». وهو لعمرى رد جد هزلى ، أو هو فى أفضل الأحوال رد اختزالى أقرب للاعتذار منه للإفحام . فنحن فى حالة حرب اجتماعية يشنها فصيل خسر ثقة الشعب ، واضطر بعد ثورة عارمة عليه أن ينحى من موقع الحكم ، فإذ به يمضى على نهج إخوان الجزائر ويسعى لإزهاق أرواح الأبرياء لمجرد أنهم لا يشاركونه الرأى . فإن لم تكن هذه حالة حرب اجتماعية فكيف نعرفها إذن ؟ وهل يسرى على حرب كهذه يشنها فصيل على سائر أفراد المجتمع ما يسرى فى حالة السلم الاجتماعى ؟ سأضرب مثالا على ما أقول من خلال تجربة عملية كنت طرفا فيها فى يناير 1991 حين تأهب «بوش الأب» أن يهجم بقواته على العراق . والحقيقة أنه لم يكن يستهدف «دكتاتورية» صدام حسين فى حد ذاته ، وإنما اتخاذه ذريعة لاستهداف أكبر قوة إنتاجية آنذاك فى العالم العربى ليقضى عليها فى مقابل تصدير «الديموكراسي» الأمريكية الأمريكية إلى بلاد ما بين النهرين!! كنت آنذاك فى مطلع عام 1991 أستاذا زائرا أحاضر عن الفن المصرى الحديث فى قسم تاريخ الفن بجامعة دبلن الموسومة «ترينيتى كوليدج دبلن». وحين أوشك بوش الأب على الهجوم على العراق حررت خطابا مفتوحا أدعوه فيه لأن ينصت لصوت العقل ، ويرجح الحل الدبلوماسى على التدخل الحربى ، مذكرا إياه بما فعله قائد القوات المحاصرة للمعرة فى القرن الحادى عشر الميلادى حين ذهب إليه أبو العلاء المعرى الثمانينى يساعده شاب على صعود التل ، فما إن رآه قائد القوات المغيرة حتى أقبل عليه قائلا : لو علمت أنك تسعى إلى لسعيت أنا إليك . وفك الحصار عن المعرة . ثم ختمت خطابى المفتوح لبوش الأب قائلا: رجاء أن تكون البشرية فى نهاية القرن العشرين ليست بأقل عقلانية منها فى القرن الحادى عشر الميلادى . ولم أشأ أن أنشر هذه المناشدة باسمى وحدى ، وإنما دعوت عددا من كبار الكتاب والفنانين الأيرلنديين ليوقعوها معى حتى يكون لها وقع أقوى على الإدارة الأمريكية . وبالفعل رحب بدعوتى من ناشدتهم التوقيع على هذه المناشدة من كتاب وفنانى جمهورية أيرلنده ، إلا واحدا تهرب منى ، وهو الأديب الأيرلندى الكبير «شيمس هيني» (1939-2013) الذى كان يعد أهم شاعر ناطق بالانجليزية آنذاك . وقد ترتب على تهربه من التوقيع أن نشرت مناشدتنا التى أردت لها أن تكون جماعية فى الطبعة الإقليمية من صحيفة «الأيريش تايمز»، التى تعد من أعرق الصحف الناطقة بالانجليزية، حيث أسست فى منتصف القرن التاسع عشر، ولم تنشر فى طبعة دبلن عاصمة جمهورية أيرلنده . كان السبب الفعلى لتهرب «شيماس هينى «من مناشدتى له أن يمهر بتوقيعه معنا هذا النداء أنه كان سيعرض نفسه لفقدان وظيفته كأستاذ للشعر فى جامعة هارفارد. فقد كانت بريطانيا ، كحليف لأمريكا فى حربها الوشيكة على العراق، تصدر قناتها التلفزيونية الرابعة والرئيسة بشريط يشغل ثلث الشاشة عليه عبارة : بريطانيا فى حرب. ثم تلحق بالأخبار المصورة من ميدان القتال فى العراق النص التالى : عرض هذا التقرير على الرقابة العسكرية للحلفاء فى الميدان. وحين التقيت «هيني» بعد ذلك فى حفل أقيم لتكريمه فى جامعة دبلن الوطنية عام 1995 بمناسبة حصوله على جائزة نوبل فى الأدب فى ذلك العام ، عاتبته على أنه خلى بى آنذاك حين ناشدته أن ينضم إلينا من أجل تغليب الحل الدبلوماسى على الحربى فى الخليج، فنظر إلى الأرض محرجا ، وما لبث أن ترك الحفل مسرع. فإذا كان هذا هو حال احترام الحق فى التعبير السلمى عن الرأى من جانب قائده الحملة الغربية علينا ، وإذا كان هذا هو مآل احترام هذا الحق من جانب الدول المتباكية حاليا على «عدم احترام» التعبير عن رأى فصيل بالقنابل والمولوتوف فى مصرنا ، فكيف لنا أن نرد عليهم إذن ؟ وكيف للسيد نبيل فهمى أن يجيب السيد «شتاينماير» المتباكى على «حرية التعبير عن الرأي» فى مصر ؟ ليته ذكر له مثال «شيماس هينى «الذى أتيت به ، والشاهد عليه محرر صفحة السياسية الخارجية فى صحيفة الأيريش تايمز آنذاك ، «بول جيلسبي» ، الذى لن يمنعه أنه صار الآن متقاعدا من أن يدلى بشهادته بشأن تقاعس «هيني» عن توقيع تلك المناشدة مما ترتب عليه عدم نشر مناشدتنا لبوش الأب فى طبعة العاصمة ، وإنما فى طبعة الأقاليم (مرفق طيه صورة من المناشدة المذكورة بتاريخ 15 يناير 1991 فى صدر الصفحة الخامسة من صحيفة الأيريش تايمز). لمزيد من مقالات د. مجدى يوسف