مصر تستضيف مؤتمرًا دوليًا لإعادة إعمار غزة في نوفمبر 2025    رئيس المتحف المصري الكبير: لدينا مركز ترميم عالمي يحتوي على 19 معملًا    ميلاد هلال شهر رجب 2025.. موعد غرة رجب 1447 هجريًا فلكيًا يوم الأحد 21 ديسمبر    ارتفاع جديد في درجات الحرارة.. بيان مهم من الأرصاد يكشف حالة الطقس خلال الساعات المقبلة    الجمبري ب1700 جنيه.. أسعار السمك بأسواق دمياط    دينا فؤاد: شعرت بالفخر لمشاركتى بالندوة التثقيفية للقوات المسلحة    هانى سعيد: انتقال رمضان صبحى للزمالك غير صحيح ولم أطلب تأجيل أى مباراة    التحفظ على والد طفل الإسماعيلية المتهم بقتل زميلة وتقطيع جثته    هل فقد ليفربول هيبته رغم جهود ومحاولات محمد صلاح لانتشال الفريق؟    نادي قضاة مصر يهنئ المستشار عصام الدين فريد بمناسبة اختياره رئيسًا لمجلس الشيوخ    استشهاد أسير داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي    شوط سلبي بين ميلان ضد فيورنتينا في الدوري الإيطالي    ترامب يصف الرئيس الكولومبي بزعيم مخدرات    ماكرون: سرقة اللوفر اعتداء على جزء من تاريخنا وتراث نعتز به    ندب المستشار أحمد محمد عبد الغنى لمنصب الأمين العام لمجلس الشيوخ    لابورتا: نصطف بجانب الاتحاد الأوروبي لكرة القدم بدلا من السوبر ليج    مصطفى محمد يقود تشكيل نانت أمام ليل في الدوري الفرنسي    ياسين منصور يتحدث في حوار مطول عن انتخابات الأهلي وعلاقته مع مرتجي ورسالة للجماهير    كرة يد – من أجل اللقب الثامن.. الأهلي إلى نهائي بطولة إفريقيا    مشاركة زراعة عين شمس في معرض أجرينا الدولي بدورته الخامسة والعشرين    رئيس البنك الأهلى: استمرار طرح شهادة الادخار 17%.. اعرف تفاصيل أعلى عائد    مصرع وإصابة شخصين بحادث تصادم بكفر الدوار في البحيرة    القبض على كروان مشاكل بتهمة ممارسة أفعال خادشة ونشر أخبار كاذبة    19.7 مليار جنيه قيمة التداول بالبورصة خلال جلسة بداية الأسبوع    مطار سفنكس الدولي.. بوابة الذهب نحو المتحف الكبير وعصر جديد للسياحة المصرية"    هاني شاكر يغني «في حل» لأول مرة أمام جمهوره في مهرجان الموسيقى العربية    ب«فيلم تسجيلي».. «الغرف السياحية» يوثق رحلة خالد العناني من الحضارة إلى اليونسكو    لجنة تطوير الإعلام تتلقى توصيات المؤتمر العام السادس لنقابة الصحفيين    أزهر كفر الشيخ: مد فترة التسجيل بمسابقة الأزهر لحفظ القرآن إلى 30 أكتوبر    في ظل انتشار الأمراض المعدية بالمدارس، نصائح مهمة لتقوية المناعة    الليمون.. السلاح الطبيعي لمقاومة البرد وتقوية المناعة    أوقاف الفيوم تعقد الاختبارات الأولية لمسابقة القراءة الصيفية.. صور    جدول مواقيت الصلاة غدًا الإثنين 20 أكتوبر بمحافظات الصعيد    5 أبراج «أهل للنصيحة».. واضحون يتميزون بالصراحة ونظرتهم للأمور عميقة    أمير عيد يستقبل عزاء والدته الراحلة.. في هذا الموعد    محافظ كفر الشيخ يُسلّم 6 عقود تقنين أراضي أملاك دولة للمستفيدين من المواطنين    بنك saib يطلق حملة لفتح الحسابات مجاناً بمناسبة اليوم العالمي للادخار    هل زكاة الزروع على المستأجر أم المؤجر؟ عضو «الأزهر العالمي للفتوى» توضح    هل يمكن العودة للصلاة بعد انقطاع طويل؟.. أمين الفتوى يجيب    محافظ الشرقية يترأس اجتماع اللجنة العامة لحماية الطفل    «بلاش بالله عليكم».. جدل على منصات التواصل مع الإعلان عن مسلسل «لن أعيش في جلباب أبي 2»    ظهور 12 إصابة بالجدري المائي بين طلاب مدرسة ابتدائية في المنوفية.. وتحرك عاجل من الصحة    وفاة الفنان أحمد عبد الرازق مؤسس فرقة الأقصر للفنون الشعبية    مصر تتوج بلقب بطولة العالم للكونغ فو    مصرع فتاة دهسها قطار اثناء عبورها مزلقان محطة ببا ببني سويف    المشدد 3 سنوات لعامل شرع مع أخويه في قتل ابن عمه بسبب الميراث    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الأحد 19-10-2025 في محافظة قنا    محافظ القاهرة يفتتح فعاليات ملتقى التوظيف والتدريب    تفاصيل إصابة محمد شريف ومدة غيابه عن الأهلي    «الأمم المتحدة» تحذر من مخاطر الذخائر غير المنفجرة في غزة    بطرس الثانى وتيموثاوس الأول قصة أخوين توليا سدة الكرسى المرقسى    أسيوط: تركيب كشافات جديدة ورفع كفاءة الطرق بالقوصية ضمن خطة استكمال تطوير مسار العائلة المقدسة    هيئة «التأمين الصحي الشامل» تناقش مقترح الهيكل التنظيمي الجديد    حالة الطقس بالمنيا ومحافظات الصعيد اليوم الأحد 19 أكتوبر    التعليم تعلن مقررات امتحان شهر أكتوبر 2025 لطلاب الصف الأول الثانوي العام    «الرعاية الصحية»: بحث إنشاء إطار إقليمي موحد لدعم أداء المنشآت الصحية مقره شرم الشيخ    نتنياهو يعلن عزمه الترشح مجددا بالانتخابات العامة في 2026    عبدالرحمن مجدي: تعاهدنا داخل بيراميدز على حصد البطولات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نازك وزين الدار
نشر في الأهرام اليومي يوم 28 - 02 - 2014

عدت الي بيتي منهكا بعد عمل يوم طويل وممل، فقد غدت المحاكم لا ضابط لها بعد أن أنهار الأمن كما أرهقني المحامون بمرافعاتهم وطلباتهم، ولم تعد الأمور منضبطة كما كانت قبل الثورة.
استقبلتني زوجتي نازك متهللة. لم تنتظر حتي أخلع ملابسي وقالت:
- حركة المحافظين باكر ومكتب رئيس الوزراء اتصل بالرقم الأرضي القديم.
لم يكن كلام نازك جديدا علي كنت أعرف لأنني دعيت لمقابلة احد رجال المجلس العسكري وطلب مشورتي في تعديل قانون البلطجة، كانوا يتصلون بي دوما ودعيت مرات عديدة الي جلسات عمل مكثفة معهم،كما أن وزير العدل سألني مرات عديدة عما إذا كنت راغبا في العمل السياسي العام، وأخبرته أنني لا أرغب في الابتعاد عن منصة القضاء ولكن الرجل أخبرني باسما أنه أملي اسمي في مكتب رئيس الوزراء باعتباري من المرشحين للمناصب الإدارية العليا.
في هذا اليوم كانت نازك منتشية، وعندما فرغنا من تناول الغداء وأخبرتني عرضا أن فلاحة من الصعيد جاءت للسؤال عني وأنها أي نازك أخبرتها أنني سأعود في آخر اليوم، وقالت بامتعاض أنها ربما تأتي.
لم أهتم بالأمر.
لسبب مبهم وغامض لم تكن نازك ترحب بمن يزورني من أهلي من الصعيد فهي لاتهتم بهم، ولا تريدهم وتقابلهم بجفاء متعمد.
لم يكن هذا جديدا علي نازك، تعودت هذا منها منذ زمن بعيد ولم أغضب واعتبرت أنها واحدة من نقائض النساء عموما فكل امرأة لها جانبها السيئ في علاقتها بزوجها وكان هذا هو فقط جانبها السيئ في علاقتنا الزوجية كانت تكره أهلي!
بعد أن شربت الشاي ذهبت الي حجرتي، لكل منا حجرته المنفصلة منذ أن تزوجنا، كان هذا طلبها منذ السنة الأولي لزواجنا، استلقيت علي السرير. في هذا اليوم بالذات، لم يأت النوم المعتاد. لم أسترح للهجة نازك في الحديث عن أهلي وأقاربي من الصعيد. يبدو أنها لاحظت لأنها دخلت غرفتي الآن، لتخبرني أنها ستجلس في الصالة لأجل أن تسمع نشرة السادسة. وقالت مبتسمة:
- أنا متأكدة من اتصالهم بك.
ثم خرجت وسحبت الباب خلفها وتركتني ممددا علي السرير.
عندما تخرجت في كلية حقوق القاهرة كنت من الأوائل علي دفعتي، وبعد ثلاثة شهور جاءني خطاب ترشيح من مكتب النائب العام، وعرفت أنني سألتحق بالنيابة العامة، كان هذا في مطلع السبعينيات. فرح أبي فرحا غامرا، وعمت الفرحة كل عائلتنا وقريتنا.
وقتها باع ابي قيراط ارض، وأعطاني عشرين جنيها، اشتريت بها بدلة كاملة من اسيوط. ذهبت للمقابلة، وبعدها وصلني خطاب التعيين. وفرحت بعملي في النيابة العامة، وكان عملي في القاهرة.
وقتها كانت هواية الكتابة في مراحلها الأولي، وكنت في أوقات فراغي أتردد علي نادي القصة في قصر العيني، وهناك تعرفت علي نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وصنع الله ابراهيم ومحمد جبريل وفؤاد قنديل وعبدالعال الحمامصي ويوسف الشاروني ورءوف مسعد ويوسف القعيد وغيرهم.
وبعد عامين من العمل. كان رئيسي في العمل، يوكل الي البلاغات التي تسبب الحرج لزملائي من أهل القاهرة. كان الرجل يعرف طبعي، فأنا لا أستجيب لوساطة أحد، فأنا كصعيدي في القاهرة لا أعرف أحدا هنا، ولا يعرفني أحد. وقد سمعته أكثر من مرة يصفني بأنني صارم.
والحق أنني فقط كنت أطبق القانون!
كنت في تلك الفترة أقضي أجازاتي في قريتي في الصعيد، وصارحت أبي برغبتي في الاقتران بزين الدار!
كانت زين الدار قريبتي من ناحية أمي، تربينا معا في سنوات الصبا الأولي في الإعدادية، وبداية المرحلة الثانوية، كانت زين الدار جميلة وطويلة، صافية الوجه واسعة العينين. وكانت تشبه الي حد كبير ممثلة السينما الإيطالية صوفيا لورين. كانت طويلة مثلها، ولها نفس تقاطيعها الجميلة.
كانت أمي قد رفضت فكرة زواجي من زين الدار التي أحببتها، وانحاز إليها أبي في رفضها الجائر!
كانت زين الدار تأتي كل صباح الي الساحة الواسعة أمام منزلنا وعلي رأسها صفيحة فارغة، تضعها في حوض الطلمبة أم يد وتبدأ في الانحناء علي يد الطلمبة الحديدية الملتوية، كان نصفها الأعلي يعلو ويهبط، وهي تحرك يد الطلمبة لتخرج الماء من جوف الأرض وكانت المياه تنساب في الصفيحة من فم الطلمبة الذي يشبه جمجمة الكلب، كان سقوط المياه في قعر الصفيحة الفارغة يحدث صوتا وكان هذا الصوت ينبئ عن وصولها عندها أنزل من حجرتي في البيت الي الساحة ، تكون زين الدار هناك بمفردها أسرع إليها وامسك عنها يد الطلمبة الحديدية أرفعها وأخفضها بعنف حتي تمتلئ صفيحتها كانت ترمقني طوال الوقت الذي تمتلئ فيه الصفيحة، لم تكن عينى تبتعد عنها فى أثناء حركة جسدى لأعلى وأسفل عند تشغيل الطلمبة. كنت اشعر بخدر لذيذ يجتاحنى، متسللا من ظهرى حتى يشمل كل جسدى ، كانت الصفيحة تمتلئ ببطء، وأعيننا متشابكة، ولا ننتبه لفرط استغراقنا فى المتعة إلى الصفيحة التى امتلأت وسال الماء على جانبيها.
وتنحنى زين الدار على الصفيحة ، تحاول رفعها على رأسها بمفردها ، وعيناها ترمقانى، من فرط استغراقى فيها ، لا أفطن إلى أنها تريد أن ترفع الصفيحة، وأنها لا تقدر على رفعها بمفردها ، وأفيق على صوتها الحالم: ارفع الصفيحة معى. كنت اقترب منها وهى تنحنى لتمسك الصفيحة لنرفعها معا، وكنت أرفع معها الصفيحة الثقيلة حتى تستقر على رأسها ، كانت تبتسم وتنظر بعيدا عنى، ثم تبتعد، وكنت أرقبها وهى تنصرف حاملة الصفيحة على رأسها. كنا يوميا نمارس حبنا المكتوب بالنظرات فقط، مرة حاولت تقبيلها، قدمت لى شفتيها ، ثم أغمضت عينيها، وضبطتنا ام ممدوح جارتنا.
بعدها اختفت زين الدار. ولم تحضر أبدا إلى ساحة بيتنا لتملأ الصفيحة، جاءت أمها بدلا منها. وقتها شعرت بلوعة فراقها أرقا وسهرا، كانت فى الإعدادية، تعلقت بعينيها ونظراتها، كانت قبلتها الوحيدة حافزا لى على التفوق ، كنا نلتقى مصادفة وخلسة ، فنتبادل النظرات صامتين، وكنت أهم بالكلام معها وكانت تبتسم ، وقلت لها: أنتظرينى.
وانتظرتنى زين الدار ، ورفضت آخرين تقدموا إليها.
عندما عينت فى النيابة، أخبرت أمى برغبتى فى الاقتران بزين الدار، ورفضت أمى بعنف ، لم تسكت أمى ، وأخبرت بدورها أبى، ورفضا الفكرة معا، وسافرت أنا إلى القاهرة محملا بحب زين الدار وشجن فراقها، وبعدها سمعت أن زين الدار خطبها أحد أقاربى ، وانقطعت أخبارها عنى تماما.
تعرفت على نازك فى نادى القصة. وقتها كنت أقرأ قصة قصيرة ، كانت تحضر مع الهواة والكتاب المبتدئين ، بعد أن قرأت قصتى الأولى واكتشفت أنها تركز عينيها على وأنا أقرأ . تركيز عينيها أربكنى، تلعثمت . ولكننى نجحت فى قراءة قصتى، وتلقيت تعليقات الجالسين ، وانتهت الندوة، وبينما أنا أجمع أوراقى، كانت تجلس بمفردها فى القاعة، وكانت نظراتها لاتزال مسددة على، ثم نهضت قائمة ، واقتربت منى ، وقالت:
- قصتك جيدة، لهجتك الصعيدية زادتها جمالا، كأنك تقرأ قصيدة شعر.
لم أكن فى أحسن حالاتى. ولم أجد عندى لفرط ارتباكى ما أرد به عليها . مضت فترة من الصمت ، لم أقدر خلالها على الكلام، كانت نظراتها تقتحمنى وتربكنى.
للمرة الأولى أشعر بالانهيار أمام أنثى، كانت أول أثنى تكلمنى بعد زين الدار. غير أنها لم تكن أنثى عادية ، كانت النموذج المثالى لأنثى أبحث عنها. كانت تبتسم ابتسامة صافية ، لونها أبيض يشوبه احمرار لذيذ. شعرها يلمع كالذهب، وجهها مستدير. عيناها فيهما جمال نادر.
رغم ارتباكى ، شكرتها.
نزلنا معا ، سرنا دون كلام ، قالت وهى تزيح خصلة جميلة من الشعر عن عينيها:
- أنت مدرس؟
قلت: وكيل نيابة.
صاحت برقة:
- وكيل نيابة؟
كنت مبتهجا وممتنا، وغمرتنى حالة من النشوة لم أعهدها من قبل ، وكنت غير قادر على جمع شتات نفسى ، ووجدت نفسى أسألها:
- وأنت؟
أخبرتنى أنها خريجة آداب إنجليزى، وأنها تقوم بأعمال الترجمة لصحيفة تصدر باللغة الإنجليزية، سرنا معا أنا وهى . تجولنا فى شوارع جاردن سيتى واسترسلنا معا فى حوار ما زلت أذكر كل تفاصيله، وكانت نهايته أن أعطتنى تليفون بيتها، وأعطيتها تليفون الاستراحة التى أقيم فيها.
توقفت أمام منزل كبير له باب ضخم وأشجار عتيقة، واستأذنت منى ، ثم غابت فيه ، و راقبتها وهى تصعد السلم العريض ، وأشارت إلى مودعة. وما أن عدت إلى الاستراحة حتى تناولت التليفون، قضينا ساعات طويلة نتحدث.
الحق أن نازك فتحت أمامى أفاقا رحبة لعلاقة لم تكن متوقعة ولم أكن أحلم بها.
فى البداية طلبت منى نازك أن أطلق شعرى وأجعله طويلا ، وأشارت إلى صالون حلاقة ، وطلبت منى أن أهذب شعرى فيه، وابتسمت وهمست باللغة الإنجليزية:
- ريموف يور موستاش.
لم أفهم فى أول الأمر ، ولكنها كررتها ببطء وإصرار ، وأشارت إلى شفتها العليا. أخيرا فهمت. ووجدت نفسى أطلب من الحلاق إزالة شاربى ، وأن يترك لى سوالف أعلى صدغى.
صحيح أننى عانيت من سخرية زملائى فيما بعد، ونظرات الدهشة على وجوه الحجاب والكتبة ، إلا أنه لم يكن يعنينى سوى نازك.
وبعدها اقترحت نازك أن نذهب معا إلى محلات الصالون الأخضر ، وهناك اختارت لى قمصانا ملونة لها ياقة عريضة (فان هاوزن) ، وسراويل نهاية أرجلها واسعة (شارلستون).
كما اصطحبتني إلي دور السينما وإلي ندوات مقهي ريش والفيشاوي، وقاعات الموسيقي، والملحقيات الثقافية لبعض السفارات.
وأخبرتني نازك أن والدها كان من رجال الصف الثاني لثورة يوليو، وكان قبل أن يتوفي مديرا لبنك كبير، وأن معظم أفراد عائلتها يعملون في السلك الدبلوماسي والقنصلي، وخالها وإبن عمها سفيران.
وأنها ووالدتها تمتلكان عمارات في المنيرة وشبرا والدقي، والدها ترك لوالدتها أموالا سائلة كثيرة، وقطعا من أراضي البناء في مدينة نصر ومصر الجديدة، كما عرفت أنها تقيم مع أمها وأختها الكبري في القصر الذي شاهدتها تدخل فيه أول يوم تعارفنا، كان أحد القصور الرصينة في جاردن سيتي. تعودنا أن نلتقي يوميا.
اليوم الذي لا أراها فيه أصبح متوترا وحرونا.
وجدت نفسي أباعد بين زياراتي لأهلي في الصعيد، لأجل ألا ابتعد عنها. شيئا فشيئا أصبحت نازك جزءا من برنامجي اليومي بعد انتهاء عملي وفي يوم راحتي، وكانت فكرة الاقتران بها تبدو بعيدة، غير أنني ذات مرة صارحتها برغبتي تلك.
ابتسمت نازك ولم ترد.
عندما سافرت إلي بلدتنا أخبرت أبي بأنني سأتزوج من القاهرة، لم يمانع سألني عن انسبائي الجدد.
أخبرته بما أعرفه عن نازك وتولت نازك الأمر مع أهلها ولم يسألوا عن أهلي.
في يوم الزفاف كان الضيوف كثيرين في نادي الجزيرة، ومعظمهم من كبار المسئولين وزراء وسفراء ورجال أعمال وحكام، وكانت نازك تشير الي كل واحد منهم وتعرفني بوظيفته، كان أبي وأشقائي وأزواج شقيقاتي يرتدون الملابس البلدية والعباءات إلا أنهم جلسوا معا في ركن منزو في قاعة الحفل كالغرباء.
لم أشعر بأهلي عندما غادروا الحفل ليلحقوا بقطار الليل.
بعد أسبوع جاءت أمي وشقيقاتي وزوجات أشقائي وأخوتي البنات وأزواجهن، جاءت بهم سيارة ميكروباص. وأنزلتهم أمام باب القصر، عندما نزلوا حملت النسوة السلال علي رءوسهن وعندما دخلن القصر أطلقن الزغاريد، ولم ترحب بهم نازك وتجاهلتهم!
قضوا ليلتهم ومع مطلع الصباح غادروا.
لم يحضروا مرة ثانية.
دخلت إلي عالم نازك المخملي الناعم.
في أسبوع الزفاف وصلتنا دعوة من خالها للسفر إلي إسبانيا في باخرة ومن إسبانيا إلي فرنسا.
وكانت تكاليف الرحلة كلها مدفوعة مقدما.
بعد عودتنا من الرحلة، بدأت نازك تملي تعليماتها، لا زيارات لأقاربي إلا بموعد سابق، والا يبيتوا معنا، ولا يتكلموا بصوت عال، وأن يخلعوا احذيتهم عند باب القصر، ولا كلام أمام الخدم، ولا، ولا.
أمام حبي الجارف لأنوثتها والاحترام الذي لقيته من عائلتها الارستقراطية والعريقة وغفرت لها تكبرها وصلافتها!
مضت حياتنا ناعمة وجميلة، كانت نازك خلالها رائعة ومتجددة، ولم يكن يعكر صفوها إلا عدم إنجابنا، ولم يشغلني ذلك.
كنت لاأزال أستلقي علي السرير، ولم أتمكن من الإغفاء بعد العصر.
سمعت جرس الباب الخارجي.
نهضت واقفا، سبقتني نازك عند الباب بعد أن فتحته، سمعتها تقول بحدة:
- اخلعي الحذاء وادخلي.
خرجت من حجرتي، وذهبت إليها، وكانت امرأة صعيدية تجلس علي السجادة.
سيدة في الخمسين ترتدي جلبابا أسود، وتضع علي رأسها شالا أسود، وكانت حافية.
عندما رأتني، نهضت واقفة، تناولت يدي وقبلتها.
زين الدار!
لم ترفع عينها عني، وخرجت منها ابتسامة عفوية، وقالت:
- إزيك يا محمود.
أخذتني المفاجأة ولم أرد.
طويلة وجميلة كما كانت، وجهها تخللته بقع سوداء عيناها واسعتان كما كانتا، فقط أحاطهما السواد، قدمها أصبحت خشنة، نفس فتحة الفم المستديرة، شفاها ذابلة تكسوهما طبقة من القشور، ومع ذلك بدت تقاسيمها جميلة، رصينة مبهجة، تفح بالرغبة، أنوثتها كما هي، واضحة المعالم، باسمه، بدا شعرها الأسود الناعم يطل من تحت غطاء رأسها الأسود القديم، تتخلله خصلات بيض، وكان جلبابها الأسود الباهت يلف جسدها الممشوق، نظرتها الجريئة انطفأت، وحلت محلها نظرة كآبية خجلي حتي وهي تبتسم.
نظرت زين الدار حولها، وقالت:
- زوجتك؟
أومأت إليها.
مرت لحظة صمت، كانت زين الدار تقارن نفسها بها، قلت:
- كيف حالك يا زين الدار؟
قالت: عايشين، ابني يا محمود، مبيض محارة غائب من شهر ثم نهضت من جلستها، وخطفت يدي وقبلتها، واستطردت باكية:
- أنت سوف تدلني عليه، أخوتك منعوا عني عنوانك، لكن أنا عرفت أوصل لك، أولاد الحلال أعطوني العنوان.
أجلستها علي الكرسي.
تمنيت أن أحضنها وأقبلها.
جلست وهي تنظر إلي الأرض.
أخبرتني أن ابنها غائب، وهي لا تعرف عنه شيئا، وطافت بالمراكز والأقسام والمستشفيات ولكنها لم تعثر له علي أثر، كانت تبكي خلال كلامها.
طلبت أحد زملائي من أعضاء النيابة، أعطيته الاسم، أمهلني دقائق.
في تلك اللحظة دخلت نازك مندفعة، وقالت مبتهجة:
- مبروك يا محمود الرئاسة اتصلت، أصبحت محافظا ستحلف اليمين غدا، البدلة جاهزة .. كانت زين الدار تنظر اليها مستغربة.
نظرت نازك إلى زين الدار.
وحضنتها وقالت:
- مجيئك فال حسن، في زيارتك القادمة سيحلف محمود يمين الوزارة.
ثم ناولتها بضعة أوراق مالية كانت في يدها، وسحبتها الي الخارج.
اتصل بي زميلي الذي تكلمت معه وقال: وجدناه، راقدا في المشرحة منذ خمسة عشر يوما قناص أصاب رأسه، إذا كنت تعرف أهله، أرسلهم.
أشفقت علي زين الدار من قسوة الخبر، لم أشأ أن أخبرها.
سحبتها من يدها، وخرجت معها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.