ما تقوم به إثيوبيا حاليا من بناء سدها على النيل الأزرق بقرار منفرد دون مراجعة شركائها فى النهر الدولى والعابر للحدود يؤسس لمبدأ عالمى جديد قد يؤدى إلى اندلاع حروب المياه فى العالم أسبوعيا ودوريا بسبب إصرارها على فرض مبدأ السيادة المطلقة على مورد مشترك، وبالتالى فهى تعطى الضوء الأخضر لجميع دول العالم التى تمر أنهار عابرة للحدود من أراضيها لكى تقوم بقطع المياه عن جيرانها دون الالتفات لا إلى القوانين ولا الأعراف الدولية ونعود إلى عصر الغاب، والاستقواء بالدول الجامحة متخذة تركيا مثلا عظيما لها فى بنائها سد أتاتورك والذى حجب نحو 25 مليار متر مكعب من المياه عن العراق، ومثلها عن سوريا، الأمر الذى ينبغى أن تعلمه إثيوبيا جيدا أن نهر النيل يختلف تماما عن نهرى دجلة والفرات لأن الأخيرين مجرد نهرين عابرين للحدود ولا يصنفان على كونهما أنهارا دولية لعدم وجود اتفاقيات ولا معاهدات ولا تعهدات ولا تقسيم للحصص بين الدول الواقعة عليه، وبالتالى فإن ما يربط تركيابالعراق هو مجرد «بروتوكول»، أى مذكرة تفاهم فقط دون أى اتفاقيات لإصرار تركيا على اعتبارهما أنهارا محلية وليست دولية، الأمر مختلف تماما مع نهر النيل والذى يرتبط باتفاقيات بين دوله يعود بعضها إلى نحو 120 عاما مثل اتفاقية مصر مع الكونغو وبعضها إلى 112 عاما مثل اتفاقية مملكة مصر والسودان مع الإمبراطور مينليك الثانى إمبراطور إثيوبيا عام 1902، ومرورا باتفاقيات وخطابات متبادلة كثيرة فى معاهدة 1929 ثم 1958 بين مصر والسودان، وصولا إلى اتفاقية 1993 بين مبارك وزيناوى فى القاهرة، واتفاقية 1959 التى تحتج عليها إثيوبيا دون معنى لم تكن أبدا للاستئثار بمياه النيل لمصر والسودان لأن ما يصلنا هو ما يفيض عن استخدامات دول المنابع، وبالتالى تم حساب متوسط كميات مياه النهر التى تصل سنويا إلى مدينة أسوان عبر مائة سنة والتى تعودت مصر تسلم عبر آلاف السنين، وهو ما يعرف فى القانون الدولى باسم «الحقوق المكتسبة» والتى يحميها القانون الدولى لو مر عليها عام واحد فقط لتسلم كميات معينة من المياه وتصبح حقا مكتسبا غير قابل للنزاع. هذا الأمر يتطلب أن تعلن مصر وبالسرعة المطلوبة بأن هناك نزاعا بين مصر وإثيوبيا قد يتحول إلى صراع بسبب تجاهل إثيوبيا لكل القوانين الدولية للمياه وللأنهار المشتركة والتى يتدخل فيها المجتمع العالمى دوريا كما حدث فى الصراع بين سلوفاكيا والمجر عام 2005، وقبلها بين الأرجنتين وباراجواى (وهى رسالة إلى رئيس وزراء إثيوبيا الذى يقول إنه لا قوانين ولا قضايا دولية فى المياه) وتمت إدانة بناء السدود الضارة والوقوف مع دولة المصب ضد دولة المنبع حيث دائما ما يعطى القانون الدولى حماية وحصانة خاصة لدول المصب والتى تكون دولا شحيحة المياه بعكس دول المنابع والتى تتمتع أولا بموارد النهر كاملة من الأمطار، وأن ما يصل من هذه الموارد إلى ضفتى النهر هو القليل واليسير مقارنة بما تستفيد به دول المنابع، سواء من زراعات مطرية غير مكلفة (87% من زراعات العالم مطرية) أو شحنا للمياه الجوفية سنويا، وبالتالى فإن المبدأ العالمى هو تقسيم «موارد الأنهار» بين دول النهر المشترك وليس أبدا تقسيم المياه التى تجرى بين ضفتى النهر وهو تماما مثل الفرق بين مبدأ المساواة وبين مبدأ العدل. الأمر الأكيد والذى ينبغى لمصر أن تعممه دوليا هو اعتراف إثيوبيا نفسها بأنها بلد وفرة مائية وأنها لا تستخدم من مياهها إلا ما يتراوح بين 5% إلى 10% فقط وهى لا حاجة لها بالمزيد من المياه، بينما ما تقوم به فعليا أنها تقيم سدا ضخما «لتخزين المياه»، وليس لتوليد الكهرباء كما تدعى دون أى قانونية لهذا الحجز الضخم للمياه العابرة لحدودها سوى فرض سيطرتها والتحكم فى دولة عريقة عند المصب وهى مصر فسرعة انحدار مياه النيل الأزرق لا تتطلب إلا مجرد عائق يحمل التوربينات لتوليد الكهرباء من سرعة انحدار النهر كما هو الحال فى سدود اليابان. إن العالم قد يتفهم التوضيح المصرى والتساؤل بشأن قيام إثيوبيا ببناء سد يحجز 74 مليار متر مكعب من المياه من نهر لا تزيد تصرفاته السنوية على 48 مليار متر مكعب! وحتى لو ادعت إثيوبيا بأنها ستختزن هذه الكمية على ثلاث سنوات بمعدل 25 مليارا كل سنة، فيكون الرد وهل من العدل أن تقوم دولة المنبع بمصادرة أكثر من نصف إيراد النهر ولمدة ثلاث سنوات متتالية تكون قد أفنيت فيها أرواح كثيرة فى دولة المصب؟!. إن الأمر لا يقتصر على ذلك فقط ولكن المجتمع العالمى ينبغى أن يعلم بأن هذا السد هو واحد من سلسلة إجبارية مكونة من أربعة سدود متتالية على النيل الأزرق بسبب كميات الطمى الهائلة التى تحملها مياهه والتى ستردم السد سريعا وبالتالى لابد من حجزها خلف السدود الثلاثة التى تليه، ليصل إجمالى سعات هذه السدود إلى 200 مليار متر مكعب أى أربعة أضعاف تصرفات النهر السنوية ويكفى البخر السنوى من بحيرات هذه السدود لضياع نصف الأراضى الزراعية المصرية وهلاك نصف الشعب المصرى من أجل الأهداف العدوانية غير المبررة لدولة تمتلك عشرة أحواض أنهار ونحو 17 نهرا ورافدا وتطمع فى مياه دولة النهر الوحيد التى تعيش على 5% فقط من أراضيها بينما يحول القحط والجفاف 95% من أراضيها إلى صحارى جرداء. أى عدالة لقضية مصيرية فى العالم كله تشابه عدالة القضية المصرية فى مياه النيل، وأى خطر تؤسس له إثيوبيا بعودة العالم إلى شريعة الغاب بفرضها للسيادة المطلقة على الموارد المشتركة. جامعة القاهرة لمزيد من مقالات د.نادر نور الدين محمد