ليسمح لى القارئ بأن اهدى هذا المقال لذكرى رحيل العالم المصرى الجليل رشدى سعيد. اقدر مبدئيا تأثير الخلافات بين دول حوض النيل على روح الوحدة الافريقية، وعلى مسار بناء التعاون الاقليمى الضرورى فى حوض النيل من اجل مستقبل مشترك وتنمية متكاملة فى احد اقاليم القارة المهمة. والمهم فى ذلك هو تقديرى ان قضية مياه النيل لم تعد شأنا ثنائيا، ولاحتى إقليميا فحسب، بل إن انطلاقها من هذا الاطار إلى أجندة المياه على المستويين القارى والعالمي، يجعل التحكم فيها غير خاضع لمجرد رأى دولة أو أخرى فى الحوض، قدر خضوعه لدوائر التخطيط فى البنك الدولى والشركات متعدية الجنسية، ومصادر رأس المال العالمى عامة. وتلك الدوائر حسب مصادر كثيرة (أهمها الراحل رشدى سعيد) هى التى ناقشت منذ مؤتمر لاهاى عام 2000 «إقامة الخزانات والمشروعات العملاقة على الأنهار... كما أقرت مبدأ تسعير المياه، ودور الشركات الخاصة فى مشروعات تسويق المياه» ورعت خمس عشرة شركة عالمية (أمريكية إيطالية فرنسية بريطانية) تقريرا يقدر استثمارات شركات المياه على المستوى العالمى فى ذلك الوقت- فى مشروعات مائية بحوالى 800 مليار دولار... وقد كانت لإفريقيا أهميتها فى المشروعات المائية دائما ممتدة من نهر السنغال إلى الكونغو والنيجر وزامبيزي، وأن خزان إنجا Inja فى الكونغو الآن يحظى بمشروعات للانتهاء من مراحله الأربع حتى عام 2025 (بطاقة40الف ميجاوات..) بتكلفة تصل إلى حوالى 80 مليار دولار، وأن جنوب إفريقيا قد تعاقدت أخيرا لاستثمار نصف طاقته لصالحها فى المنطقة وذلك على اساس ان مستثمرى مشروع الكونغو قد عقدوا اجتماعا منذ ابريل 2008 بإشراف مجلس الطاقة العالمى لتوفير رأس المال المطلوب, بل وخصص البنك الدولى عشرة مليارات دولار لإطلاق المشروع مثلما خصص ثمانية مليارات لمشروع الزمبيزى القريب منه. إن أول استخلاص لهذه الحقائق الأولية وبدون تفاصيل لضيق المجال يجعلنا نتصور أن حدود مشروع سد محلى مثل سد النهضة (6 آلاف ميجا بحوالى 5 مليارات دولار) هى أكبر من أن يكون أثيوبياً بحتاًٍ، مع تقديرنا قيمة التعظيم القومى للمشروع، كما أن تنوع المساهمين فيه لتخزين المياه او لتوليد الطاقة او توزيعها أو فى بنيته التحتية، أو الطرق الحديدية منه وإليه فى الإقليم, تشير إلى عملية مالية كبيرة لايكفى معها أن يفهم الرأى العام المصرى أنهم مجرد متآمرين على مصر ، بقدر ضرورة فهم شبكة المصالح، وتوفر القدرة على النفاذ داخل هذه الشبكة لتحولها مصر والسودان واثيوبيا معا إن أمكن- إلى مشروع تنموى كبير ومشترك، مثل تلك الشبكة التى ستمتد من سد «إنجا» إلى جنوب إفريقيا، مع الحديث عن توزيع طاقته فى غرب إفريقيا والشرق الأوسط! ( تحضرنى هنا محاصرة الحقائق الأخيرة لهذا اللغط السائد من قبل بعض الفنيين المصريين حول مشروع مقترح لربط نهر الكونغو بنهر النيل بقنوات تشق الجبال والمستنقعات، وسط منطقة البحيرات العظمى وجنوب السودان؟) وذلك للاستغناء عن سد النهضة!!. ولايغيب عن ثلاثية المستوى المصرى السودانى الاثيوبى أهمية العمل المشترك فى هذه الزاوية للتنمية القومية، بل وتكوين بؤر معلومات مشتركة وحزمة مواقف مشتركة حول المشروع,لأن رأس المال العالمى لا يعرف الانحيازات الصغيرة ، ولاالقومية. وها هو رأس المال العربي، حتى بارتباطات بعضه السياسية مع مصر, أصبح يخضع بدوره للتساؤل، كما أن رأس المال التجارى والاستثمارى الأوروبى أو الصينى أو الهندى او التركي, لابد أن يقدر الأسواق المصرية والعربية معا ولايستطيع تجاهلها ,اذا احكمنا القفة فى وجه هذا الضغط... توقعى أن تجرى إعادة قراءة للأحداث بمنهج آخر «للتوافق», سواء التوافق الاقليمى اولا او مع مصادر رأس المال العالمى نفسه، لأن الصراع فى مثل هذه المشروعات الكبرى سيعطل نمو المصالح وطنيا وإقليميا،. واذا كان الممولون فى حوض الكونغو مثل الزمبيزى من قبل- قد أتاحوا لجنوب إفريقيا أن تقود عملية الاستثمار بعيدا عن أراضيها ، وارتضت الكونغو الديمقراطية ذلك لتصبح مركز استثمار عالميا، فإنى لا أظن أن الأثيوبيين ستحكمهم أى نظرة ضيقة فى هذا الصدد ، إذا ارتأواخططا مشتركة مع شركائهم او اخرى اقليمية ودولية عميقة التأثير لمصلحة التنمية بقدر ماهى لمصلحة العملية الرأسمالية الدولية بالضرورة. فى اطار كل ذلك قد لايترك حصار العولمة للمشروعات المائية فرصة «للحلول الذهبية»، بقدر ما يدفعنا ذلك لجهد ذاتى لإعادة قراءة الاتفاقيات الحاكمة فى المنطقة، وفق منطق إفريقى وحدوى أرانى ملتزما به... وقد لفت نظرى عند قراءة الاتفاقات الأساسية بين دول حوض النيل، أنها تحتاج أكثر للقراءة السياسية ، قبل القراءة القانونية أو الفنية. ومن ثم فإنى هنا أتصور المفاوض المصرى والأثيوبى راغبين فى التوافق لاالصراع، اعتبارا لأبعاد الأزمة لا مجرد واقعها. إن جُل الاتفاقيات القائمة لتنظيم الانتفاع بمياه النيل تشير لإمكانات هذا التوافق، لأن الحوار حول اتفاقية الإطار لدول الحوض يختلف عن التفاوض بشأن سد النهضة مباشرة...ومن هنا من الضرورى التفاوض أولا حول الاتفاق الإطارى لأننا فى هذا الصدد سوف نجد روح «اعتبار الآخر» قائمة طوال الوقت... فاتفاقية 1959 نفسها تتضمن «اتفاق مصر والسودان أن تبحثا معاً مطالب البلاد الأخري، وأن تتفقا على رأى موحد بشأنها...»... هذا يرد على القول إن البلدين استبعدا الأطراف الأخري... وفى الوقت نفسه تشير اتفاقية الإطار الأخيرة (عنتيبي) إلى مثل هذا المبدأ حول «الاستخدام المنصف والمعقول لموارد المياه» ومراعاة الظروف المتعلقة بالموارد المائية بما فيها محدوديتها... والالتزام بعدم التسبب فى ضرر جسيم للدول الأخري...الخ... فإذا كانت هذه المواد جميعا تؤدى إلى ضرورة «الحوار» حول المبادئ، لامجرد «التفاوض» حول التفاصيل، فإن الدولتين ستجدان أنهما امام مربع «التوافق» بالضرورة.... بدلا من ان تجدا نفسيهما أمام ضرورة الاستسلام لمصالح وقواعد رأس المال العالمى للتفاوض حول مصالح استراتيجية «اخري». إن المخاوف تصل أحيانا إلى ضرورة انتباه الرأى العام فى البلدين الى احتمالات الخضوع لتلك المصالح المالية الاقليمية او الدولية (بالعطاء او المنع او الاثارة) بأكثر من التوقف عند الحدود القومية.. وساعتها لايفيد الصراع المحلى او حتى الضجيج الإعلامى فى أديس أو القاهرة... ان من يصرخون فى اذان الاطراف فى حوض النيل, عليهم أن يدركوا أن دوائر رأس المال العالمى وكل الدوائر الاستراتيجية عندنا ومن حولنا لابد أنها تدرس نقاطا متشابكة اخرى حول : ما يردده علماء مصريون عالميون حول المياه الجوفية فى الصحراء الغربية, وآخرهم عصام حجى الذى يتحدث عن المقارنة بمياه المريخ، فضلا على أحاديث فاروق الباز السابقة، بل وآخرها نهر المياه الجوفية الاستراتيجى المنافس شمال ليبيا. ما يتردد منذ مدة عن مشروعات فرنسية حول تنقية مياه البحر على امتداد جنوب المتوسط بدءا من المغرب، ومنافسة الاسرائيليين أنفسهم المشروع الذى يشمل الشرق الأوسط كله. سياسات سابقة للبنك الدولى نفسه, والتى نصحوا بها سوريا وتركيا لحل أزمة شبيهة بإنشاء سدود صغيرة توفر المياه بدلا من الصراع. تدقيق البحث حول التنبؤات الجوية، لأن أيا منها كفيل بأن يكون عنصرا مهماً فى الإقناع، سواء بمواجهة فيضانات متوقعة حول هذه السدود, أو جفاف يعانى منه هذا الطرف أو ذاك, ناهيك عما يقال عن رعب ذوبان الجليد الشمالى واثاره الممتدة حتى دلتا النيل..!! لمزيد من مقالات حلمى شعراوى