في أوائل العام1939 نشرت عدة مقالات بجريدة الاهرام حول الجامعة, كتبها الدكتور مصطفي فهمي, أحد المثقفين المصريين الكبار الذين ظهروا في النصف الأول من القرن العشرين وسط كوكبة كبيرة من النخبة التي أثرت في ذلك الوقت علي كافة مناحي الحياة.. ولد منصور فهمي في محافظة الدقهلية بمصر عام1886 ودرس في كتاب القرية وعندما أتم دراسته الابتدائية بالمنصورة التحق بإحدي المدارس الفرنسية بالقاهرة وحصل منها علي شهادة البكالوريا عام1906 والتحق بكلية الحقوق. وبعد عامين من الدراسة بها تم تأهيله مع عدد من زملائه للتدريس بالجامعة التي أنشئت عام1908 ثم سافر إلي باريس والتحق هناك بجامعة السوربون و قضي خمس سنوات درس فيها الفلسفة وبعض العلوم الأخري كالجغرافيا الطبيعية والفسيولوجيا وعلم الأجنة, وحصل علي درجة الدكتوراه في الفلسفة عن وضع المرأة في الإسلام, وتعرض لعاصفة من الانتقادات في الجامعة المصرية من بعض الاساتذة, حيث آثر الانزواء والسلامة وقررالابتعاد عن المواجهة الطويلة. كتب الفيلسوف مصطفي فهمي مجموعة من الاراء حول مسألة التعليم الجامعي تصلح اليوم ونحن في القرن الحادي والعشرين ونستطيع أن نعتبرها ضمن الملامح الرئيسية لفكر الجودة, لقد بدأ الفيلسوف الشهير مقالاته بسؤال نصه هل من الخير أن يكون تيسير التعليم العالي أو عدم تيسيره لبعض الناس هو الوضع الصحيح لرأس المسألة؟ أم من الخير أن تكون المسألة هي التعليم العالي وما يجب أن ييسر منه للناس وما لايجوز أن ييسر؟ وكانت الإجابة: أن التعليم العالي أنواع وأصناف ويمكن تعلمها بأساليب مختلفة وفقا لأغراض المتعلم وحاجاته منها, فمنه ما يحسن بأكثر عدد من الناس أن يتذوقوه كالآداب التي يرتفع بها مستوي النفس البشرية وتعرف منها الأمم نفسها ومثلها العليا, فالتاريخ القومي والذوق الأدبي والفني والحقوق ومعرفة أساليب الوقاية من الأمراض وطرق الصحة والسلامة, وتقدير قيم السلوك والأخلاق. أما عن إصلاح النظم في التعليم العالي, فقد قام الفيلسوف مصطفي فهمي بذكر اهم عناصر التعليم العالي وكانت في رأيه تتراوح حول المعلم والمتعلم, والنظام العملي لتلقين العلم, و مراعاة البيئة وما يقتضي أثرها من العناية الخاصة ببعض التعاليم وتاريخ العلم في غير هذه البيئة والحرية الفكرية التي لا تؤذي, وأخيرا إشباع الجو الجامعي بما يروض علي معاني النظام والخلق والواجب. فعن العنصر الأول( الأستاذ الجامعي) رأي ضرورة أن يكون ناضجا في العلم والتعاليم, شغوفا بكل ما يتصل بهذا العلم وهذه التعاليم, غير أنه توقف عند بعض من ساعدتهم الظروف فسافروا بعض سنين قليلة إلي الغرب فصادفهم التوفيق في الامتحان فتصوروا أنهم خير ممثل للمعلم الجامعي ذلك لأن العلم السليم يحتاج إلي الأناة وطول الزمن, ولا يقاس ذلك علي الموهوبين الذين يحصلون علي العلم الوافي في سرعة لا يحسب معها حساب الزمن الطويل. فإذا صح ذلك فقد يترتب عليه بعض التغيير في نظام البعثات العلمية. ولقد كان أجدادنا أبصر منا بالأمور حين أطالوا مدة هذه البعثات فكانوا بذلك الجديرين بتمثيل الأستاذية تمثيلا صحيحا. ويضاف إلي طول الزمن شغف من يهيأ للأستاذية بالعلم الذي يريد مزاولته. وعن العنصر الثاني( الطالب الذي يتلقي العلم), فقد رأي باديء ذي بدء أنه ليس من المصلحة أن يدخل حظيرة العلم والتعليم من لا يصلح لهما فالطالب الذي يلجأ إلي كلية ليست له رغبة في الدراسة بها أو ليست له أهلية لتكاليفها فإنما يساق إلي مجزرة فيها إضعاف لأعصابه, وإتلاف لنفسه وإرهاق لطبعه, ومن ثم يتكون التلميذ المشاغب والشاب المنحرف, مما يجب معه حسن الفرز والتدقيق في الاختيار, وعن مراعاة ظروف البيئة والمحيط الذي تنشأ فيه معاهد التعليم, فهي من الأمور المحتومة والواجب تقديرها لأن البلد الصناعي أو الزراعي, أو الأرض ذات المعادن, أو السماء ذات الظواهر الجوية.. كل ذلك من شأنه أن يجعل الجامعات تعني عناية خاصة بالعلوم التي تتصل بطبيعة البلدان التي تستقر فيها هذه الجامعات, وهناك عنصر هام متصل بتاريخ العلم في الأمة التي تعني بالتعليم العالي فذلك من الأمور التي يجب علي الجامعات مراعاتها, فدروس الرياضيات والطبيعيات والكيمياء والفلسفة والطب والاجتماع والأدب والتشريع وغير ذلك لابد أن تتصل بما كان لسلف الأمة من خدمات في هذه العلوم, فأي التعاليم الطبيعية عندنا يجوز لها أن تغفل تذكيرنا بابن الهيثم وأمثاله؟ وأي التعاليم الكيماوية يجوز أن تقطع الاتصال بجابر وأمثاله؟ وأي العلوم الاجتماعية والفلسفية لا تصلنا بأمثال ابن خلدون وابن رشد والجاحظ وأمثالهم, أم عن عنصر حرية الفكر التي لا تؤذي فقد رأي أن المنوط بذلك هو الأستاذ الجامعي نفسه, الذي يفترض أن يتحلي باللباقة فما كان من شأن جامعة من الجامعات ولا من مصلحتها أن تبغض الناس في العلم حين لا تحسب لشعورهم وما يألفون حسابا, فقد ينشأ الناس بحكم الزمن والظروف علي تقاليد يعزونها وليس من اللياقة ألا تصان مشاعر الناس. أما آخر العناصر فهي الخاصة بإشباع الجو الجامعي بما يروض علي معاني النظام ويلهم الخلق والواجب قد يكون موضع ذلك في مجموعة القوانين واللوائح, والتقاليد الجامعية والحزم في التطبيق, والاقتضاء بالقدوة الصالحة وغير ذلك مما يهيئ روحا جامعية منعشة. هذه كانت أراء الفيلسوف الدكتور منصور فهمي حول مسألة التعليم العالي, ألا ترون أنه تحدث عن جودة التعليم وعناصره قبل أن يتم وضع معايير للجودة وطرق تطبيقها, فماذا يتري لو كان قد عاش إلي يومنا هذا وقد أختفي كل من يريد أن يقرأ أو من يصيخ السمع, وبين هذا وذاك فقد تآكل التعليم الجامعي الحقيقي وتقهقرت الجامعات المصرية إلي آخر الطابور بل وخرج بعضها منه وجلس في مقاعد المتفرجين!! لمزيد من مقالات د.حامد عبدالرحيم عيد