ماذا نعني بالترجمة الأدبية؟ المعني الأول والأساسي هو ترجمة الأدب, ولكن للتعبير معان ثانوية شائعة, علي عدم دقتها, من أهمها الترجمة التي توحي للقارئ بأن النص كتب باللغة المترجم إليها أصلا( وتسمي اللغة الهدف أو المستهدفة) لا باللغة المنقول عنها( وتسمي اللغة المصدر أو المصدرية. وقد لا يكون هذا النوع الأخير في نظر البعض ترجمة لأي نوع أدبي معترف به, كالقصة والرواية والشعر والمسرح, بل قد يكون ترجمة لمقال أو حتي لدراسة علمية, ما دام المترجم قادرا علي تجنب العجمة والغموض, وتوخي الفصاحة والوضوح. ولكن المعني الأول كثيرا ما يختلط بالمعني الثانوي غير الدقيق, ولذلك أحببت التمييز بينهما بداية قبل أن أجيب عن السؤال المهم: لماذا نترجم الأدب؟ كان أستاذنا شكري عياد يقول لنا: مثلما لا توجد كيمياء انجليزية وفرنسية وعربية, بل كيمياء فقط, لا يوجد أدب جدير بهذا الوصف يقتصر علي اللغة التي كتب بها, فما دام أدبا فلابد أن يقبل الترجمة إلي أي لغة أخري, وقد عشت مع هذه المقولة عقودا طويلة, أومن ولا أزال بأن الترجمة الأدبية بهذا المعني لابد أن نتوقع منها إخراج عمل أدبي, وهذا بالمناسبة ما انتهي إليه عالميا كبار باحثي مبحث دراسات الترجمة في العقدين الأخيرين. ومن عواقب هذه النظرة أن يحاول المترجم قدر الطاقة اجتياز حاجز اللغة الذي يقيد النص المصدر بلغته وثقافتها, وأن يقدمه بمصطلح اللغة الهدف وثقافتها إن أمكن, وهذا منشأ الجدل الذي أثاره باحث الترجمة الأمريكي لورنس ينوتي, الذي يطلق علي هذا المذهب مذهب' التدجين' أي جعل النص داجنا أو أليفا في اللغة التي ترجم إليها, بحيث تختفي سمات الغربة أو الطابع الأجنبي منه, ويصبح نظيرا, رغم الاختلاف, لآداب اللغة التي ترجم إليها. يقول ينوتي إن هذا المذهب أدي إلي طمس معالم التفرد الثقافي والفني للأعمال الأدبية التي تترجم عن لغات أجنبية إلي الإنجليزية, بحيث أصبحت لا تكاد تختلف عن الأعمال المكتوبة أصلا بالإنجليزية, كما إن دور المترجم هنا لا يظهر, بل إنه يختفي وراء النص, ولا يكاد القارئ يشعر بما فعله المترجم أو بمدي تفسيره الخاص للنص الأجنبي, وتقوم حجة ينوتي( الإيطالي الأصل) علي إمكان إظهار الطابع الإيطالي لعمل مترجم إلي الإنجليزية باختيار أبنية أو ألفاظ إيطالية الأصل أو الجرس حتي تنقل إلي القارئ الإحساس بأنه نص أجنبي( إيطالي في هذه الحالة). أي إن ينوتي يدعو إلي لمسة تغريب تؤدي إلي إمتاع القارئ بالغرابة اللغوية التي تصبح وسيلة للفصل بينه وبين النصوص المكتوبة بالإنجليزية أصلا. ولكن نظرية ينوتي, التي قد تصلح للترجمة فيما بين لغات من أسرة واحدة( كالفرنسية والإيطالية والإسانية) أو لغات تربطها وشائج ثقافية متينة, مثل معظم اللغات الأوروبية الحديثة التي استقت ما استقته من اللاتينية واليونانية, نظرية لا تصلح للترجمة من لغات تنتمي إلي عائلة معينة( كالهندية الأوربية) إلي لغات تنتمي إلي عائلة أخري( كاللغات السامية) إذ إن محاكاة الأبنية في لغة من اللغات الأولي عند الترجمة إلي لغة من لغات العائلة الثانية قد يؤدي في حالات كثيرة إلي ما سميته العجمة بل والركاكة. فلكل لغة, كما يقول عالم اللغة المعاصر مايكل هاليداي, منطقها الخاص الذي تقسم العالم وفقا له تقسيما خاصا, بمعني أن بعض اللغات لديها أسماء لأشياء لا نظير لها في لغات أخري, والمقصود أسماء المجردات بصفة خاصة, فما أيسر أن تقبل لغة أسماء المجسدات التي تأتي بها لغة أخري دون تغيير, وما أصعب أن يجد الإنسان مقابلات للمجردات الناجمة عن خبرة أصحاب اللغة الأخري بالعيش في بيئة مختلفة وثقافة مختلفة. وقد لا يرجع الاختلاف إلي البيئة أو حتي الثقافة بمعناها الواسع وحدهما, بل قد يرجع إلي أسلوب التفكير الخاص بأهل تلك اللغة, وتقسيمهم للفئات الفكرية أو' المقولات' تقسيما خاصا. وهنا لن يستطيع المترجم أن ينقل الغريب بلغته الغريبة وإلا تسبب في الغموض, أي أقام حاجزا يمنع القارئ من الفهم, إذ يقول دارسو اللغة والفكر إن الإنسان لا يفهم إلا ما يعرفه. إن صح هذا, فكيف نقدم للقارئ ما لا يعرفه بحيث يفهمه؟ كانت هذه ولاتزال من المسائل الجوهرية في الترجمة عموما, لا ترجمة الأدب خصوصا, وقد وجد الرواد لها حلولا رائعة لانزال نتبعها علي الرغم مما أدخلناه فيها من تعديلات, وأهم هذه الحلول تقسيم المجهول إلي عدد من المعلومات( والأصل أن مفرد هذه الكلمة' معلوم' كما نجد عند إخوان الصفا ولم يؤنث إلا في السبعينيات من القرن الماضي). وهكذا نجح كبار مترجمينا في تقديم أعوص المفاهيم الفلسفية والفكرية إلي القراء في القرن العشرين, دون أن يشعر أحد بالعجمة أو الركاكة( مثل زكي نجيب محمود ولويس عوض ومحمد بدران وغيرهم من الرواد) وقد شرحت هذا الأسلوب في بعض كتبي عن الترجمة, فما أردت هنا إلا أن أقدم تمهيدا وحسب لقضية الأدب المترجم. أول إجابة عن السؤال الذي طرحته أولا: لماذا نترجم الأدب؟ يمكن أن تكون ببساطة إننا نريد أن نعرف ما ذاك الأدب. فمترجم الأدب الصيني أو الياباني يطلعنا علي ما في هذا الأدب, سواء أكان ذلك علي مستوي الفكرة وحسب, أي ما تقوله قصيدة من شعر' الهايكو' الياباني بغض النظر عن مقاطعها السبعة عشر, أو ما يقوله عزرا اوند في ترجمته بعض الأناشيد من الصينية, علي الرغم من تأكيده جهله بتلك اللغة, أو ماذا يقول شعراء الشرق: حافظ الشيرازي, أبو القاسم الفردوسي, جلال الدين الرومي, عمر الخيام خصوصا. بعد ذلك تأتي قضية كيف نقوم بهذه المهمة, وهل هي مهمة بسيطة أم مركبة؟ والإجابة الثانية عن السؤال نفسه يمكن أن تكون رغبتنا في أن نقدم عملا مترجما يمثل العمل المنقول عنه لا في ما يقوله فقط بل في كيف يقوله, أي أن نقدم صورة في اللغة الهدف للعمل الأدبي في اللغة المصدر, وهذا ما يعنيه شكري عياد بترجمة' الأسلوب' بمعناه الواسع, وقد خصص كتابا كاملا لمناقشته, أي ظواهر البناء والنسيج والنغمة( وتلك غير الجرس) في العمل. فهل يحاكيها المترجم مع الحفاظ علي الطابع الأصيل للغة الهدف؟ وماذا أتت به نظرية الترجمة الحديثة في هذا الصدد؟ لمزيد من مقالات د.محمد عنانى