الإسكندرية الكوزموبوليتانية مصطلح رغم اختفاء الكثير من معانيه إلا أنه مازال حاضرا في بعض التفاصيل الصغيرة التي لم تنجح العشوائية والتخبط واللا هوية في أن تقضي عليها... مازالت بعض التفاصيل الرقيقة لمدينة كانت في وقت من الأوقات حالمة ورومانسية تفرض نفسها بمساعدة بعض العجائز الذين عاشوا الزمن الجميل ومازالوا متمسكين بمفرداته من بقايا مقاه يونانية ومطاعم إيطالية ومحلات بقالة وحلويات ومخابز أرمينية ومحلات البن التي نشرت منذ أكثر من قرن ثقافة القهوة اللذيذة بالإضافة لأحياء ومحطات ترام وشوارع تحمل أسماء أجنبية مثل الأزاريطة وكامب شيزار وشارع لاجيتيه أي السعادة ومدارس ترطن بلغات يونانية وأرمينية وإيطالية وملاجئ تحمل جنسيات قاطنيها مثل ملجأ العجزة الإيطالي واليوناني, وفي ظل الوجود المتعدد للمقابر من أرمينية ويونانية ويهودية وإيطالية وغيره لا يمكن أن ينكر أحد علي المدينة عالميتها وتميزها, فالحقيقة التي لا تقبل الشك أن الإسكندرية كانت والي وقت قريب مدينة عالمية... فما الذي حدث للمدينة وبسببه تحولت إلي مدينة ملتبسة المعالم.. اختلط فيها الحابل بالنابل وعلت فيها نبرة الإسلام السياسي المتطرف في بعض الأحيان وزادت في بعض الأحياء نسبة المنتمين للجماعات الدعوية المتشددة التي لا تعبر عن روح الإسلام المتسامح الذي كثيرا ما عاش في سلام مع الأجانب... ؟ يقول شيخ الأثريين السكندريين أحمد عبد الفتاح أن الإسكندرية هي أصدق مثال للمدينة المختلطة من حيث الثقافات والحضارات والجنسيات وثبت أن هذه النوعية من المدن تصنع حضارة مختلفة عن المدن ذات النسيج الواحد وأكبر مثلين هما الإسكندريةونيويورك أما الإسكندرية فعاشت التجربة مرتين.. الأولي في عصر البطالمة والثانية في عهد أسرة محمد علي حيث بلغت قمة رقيها وثرائها أما نيويورك فتجربتها ترجع للعصر الحديث, والإسكندرية تدين في نهضتها لمحمد علي باشا الذي أعادها للحياة من خلال حفر قناة المحمودية و إنشاء الميناء الغربي كميناء رسمي لمصر, وتشييد قصر رأس التين الذي كان مقره المفضل وفي عهده أصبحت المدينة مقر قناصل الدول الغربية فجذبت العديد من الفرنسيين واليونان واليهود والشوام والإيطاليين. وخلال المائة وخمسين سنة التالية أصبحت أهم ميناء في البحر المتوسط ومركزا مهما للتجارة الخارجية, ثم شهدت اهتماما كبيرا في عهد الخديو إسماعيل فأنشأ بها الشوارع والأحياء وأنارها ونظمها ورصفها وأهتم بأعمال النظافة والصحة, ووضع شبكة للصرف الصحي وتصريف مياه الأمطار, وقامت إحدي الشركات الأوروبية بتوصيل المياه العذبة إلي المدينة, وأنشئت مبان ضخمة وعمارات سكنية فخمة في عدد من الأحياء كمنطقة الرمل وضمت المدينة بين جنباتها الآلاف من كل الجنسيات حتي قيل أن كل أمه في الأرض أرسلت من يمثلها في الإسكندرية. ولكن التفسير الذي يقدمه أحمد عبد الفتاح للتحول الذي أصاب الإسكندرية التي أصبحت أكبر تجمع للجماعات الإسلامية والسلفية التي وصل بعضها إلي حد التطرف هو أنها تلقت عدة ضربات بداية من الحرب العالمية الثانية والتي مع انتهائها بدأت العناصر الجوهرية في ثقافة المدينة تختفي ثم قيام ثورة يوليو1952 وشيوع الشعارات القومية وهجرة الريف إلي المدينة فامتلأت بأجيال جديدة لم تعش هذه الثقافة المتنوعة والغنية تلا ذلك العدوان الثلاثي في1956 وتعالي نبرة العداء ضد الأجانب مما حدا بمن بقي منهم الي الهجرة تاركين قصورهم وفيللهم الأنيقة في الحي اللاتيني والإبراهيمية وكامب شيزار ليحل محلهم طبقة شعبية كانت تعمل في خدمتهم وليس الطبقة الوسطي مما خلق طبقة جديدة انحرفت بالمدينة عن مسارها, ثم هزيمة1967 أمام إسرائيل مما أشعل التيار الديني الذي أرجع الهزيمة إلي البعد عن الله, ثم ظهور موجات من المهجرين من مدن القناة الذين كانوا يكنون مشاعر عدائية للأجانب بالإضافة الي تهاون السادات وتسامحه مما فتح الطريق أمام الكثير من التيارات الإسلامية بلا تمييز في محاولة للقضاء علي النفوذ الشيوعي وبعده مبارك الذي تأرجحت علاقته ببعض التيارات الإسلامية من موافقته علي عملهم بالتجارة والسياسة وفي هذه الفترة انتشروا في أماكن محددة في شرق الإسكندرية مثل ميامي والعصافرة والمندرة وسيدي بشر وأبو قير.... وهكذا تحولت الإسكندرية من مدينة ترتدي قبعة الي مدينة ترتدي الجلباب القصير. أما الدكتور فتحي أبو عيانة أستاذ الجغرافيا البشرية بجامعة الإسكندرية فيؤكد أن صفة الكوزموبوليتانية اللصيقة بالإسكندرية كانت مرتبطة بوجود الأجانب منذ أيام محمد علي وقد انتهت هذه الصفة عن المدينة في أوائل الستينيات وهي الفترة التي تحولت فيها الإسكندرية من مدينة عالمية الي مدينة محلية وأصبحت مرآة تعكس بداية التحول في المجتمع المصري كله الي النظام الاشتراكي وغل يد الأجانب في الصناعة والتأميم في إطار ما طرأ علي المجتمع بعد هزيمة1967 من أسلمة وتعاظم التيار الديني الذي وصل الي قمته في عهد الرئيس السادات الذي قام برعايته ليضرب به الشيوعيين فانقلب بعدها السحر علي الساحر, بالإضافة إلي كثرة العائدين من بلاد النفط والذين تمركزوا في الإسكندرية محملين بأفكار جديدة وغريبة ومتطرفة عن الدين الإسلامي ومن ثم بدأت ثقافة بلاد النفط تغزو مصر عامة والإسكندرية خاصة في ظل وجود حزام كبير من العشوائيات والفقر بالمدينة يقودهم بعض المثقفين المتطرفين الذين بدأوا في بث سمومهم في القطاع الهش من الأميين الذين يسهل التأثير عليهم, فقد بلغ عدد المناطق العشوائية التي تضم عددا كبيرا من الأميين الذين يسهل التأثير عليهم تحت ستار الدين54 منطقة يقطنها ما يقرب من1.3 مليون نسمة أي37% من سكان المدينة وهم الذين شكلوا البنية الخصبة للتطرف الإسلامي وبعدها بدأ التغيير في طبيعة الإسلام الوسطي الذي كانت تنعم به الإسكندرية إلي أن أصبح هناك مساجد لكل فئة لا يدخلها غيرهم وعرفت المدينة تصنيفات إسلامية لم تكن موجودة من قبل من اخوان وسلفيين وسنة محمدية وغيرهما وهنا يطرح الدكتور أبو عيانة تساؤلا يدور في عقول مواطني الإسكندرية ما الذي جري للمدينة الأكثر تفتحا في مصر خلال النصف الثاني من القرن العشرين؟ سؤال هو نفسه يجيب عنه بقوله أن الدور الديني بدأ يتعاظم في الجامعات إبان عهد السادات وظهرت قيادات طلابية أصبحت الآن تقود تيار الإسلام السياسي ونمت وتغلغلت لوقوف الدولة راضية وساكنة ومتقية شرهم في كثير من الأحوال ولم تكن تتدخل إلا حينما تحدث مصيبة مثل أحداث التسعينيات ومن هنا تعاظمت كياناتهم والتصقوا بالشارع السكندري الفقير من خلال المساجد والزوايا التي تبث أفكارا متطرفة ولا تخضع للرقابة, أما السلفية المعتدلة فموجودة في الإسكندرية منذ دخول الإسلام وكانت مرتبطة بالتصوف والأئمة المعروفين باعتدالهم بينما السلفية المتطرفة هي نتاج الفترة التي تعاظم فيها دور الإخوان في التسعينيات ولوجود البيئة الحاضنة من فقر وجهل وانتشار عشوائيات وما اعتري المجتمع السكندري من تغيرات ثقافية وهجرة الأجانب وإحلال طبقة أقل من متوسطة في أبنيتهم ومحلاتهم ومطاعمهم لم تأخذ منهم هذه الطبقة إلا القشور والمظهرية.... ويضيف أبو عيانة أن هذه المجموعة المتأسلمة التي نشأت في المدينة الحالمة أرادت الإعلان عن نفسها وإثبات وجودها من خلال التأسلم الظاهري وإطلاق اللحية بشكل مبالغ فيه وتقصير الجلباب ومنع المجموعات المختلفة عنهم من ارتياد مساجدهم وادعاء الدين وساهم ذلك في ظهور الجماعات الأكثر تطرفا وغالبا هم من الذين فاتهم قطار التعليم وتأصلت فكرة النقل وليس العقل وبالتالي من الصعب أن تجد أيا من أفراد هذه المجموعات من خريجي الكليات النظرية التي تعتمد علي الجدل والتفكير والاستنتاج وليس الأمر والطاعة.. ولحل هذه المعضلة والعودة بالمدينة إلي بر الأمان كما يقول أبو عيانة يجب الانتباه الي أهمية التعليم ونوع المدرس والاهتمام بدور المدرسة وما تقدمه ورفع درجة وعي المواطن ومراقبة المساجد خاصة المعروفة بتشددها وتطرفها وفتح حلقات نقاشية واسعة للشباب علي كل المستويات... ويفسر الدكتور أبو عيانة النتائج المبهرة التي حصدها حمدين صباحي في الانتخابات الرئاسية علي الرغم من إعلان البعض أن الإسكندرية مدينة سلفية ولن تمنح أصواتها للعلمانيين والليبراليين وغير ذلك من المسميات الرنانة قائلا: أن الإسكندرية مدينة مبهرة فرغم تغلغل التيارات الدينية ومنها المتشدد بها إلا أنها مازالت تقاوم وتحاول الحفاظ علي طابعها المعتدل والوسطي والجميل لوجود أكثر من60% من سكانها من المثقفين والطلبة ومتوسطي التعليم بل من المواطنين العاديين الذين يحملون أفكارا مدنية لا تتعارض مع طبيعة الدين الإسلامي السمح. ومن الجدير بالذكر أن الإسكندرية في القرنين التاسع عشر والعشرين كانت تضم أكثر من200 ألف يوناني أصبح عدد الباقين من أسرهم نحو1500 فقط حيث كانت الجالية اليونانية أكبر جالية في الإسكندرية يليها الإيطاليون الذين تبقي منهم ما يقرب من الألف قاموا بإنشاء جمعية أهلية تجمعهم... ويحكي بعضهم أن عدد المصانع الإيطالية في الإسكندرية قبل1952 كان232 مصنعا مما يشير إلي تغلغلهم في الاقتصاد المصري وكان بها30 ألف إيطالي, ومع قرار التأميم عام1961 م فقدوا كل أملاكهم فهاجروا ولم يتبق منهم إلا1000 إيطالي, وبهجرة أغلب الأجانب فقدت الإسكندرية صفة العالمية والكوزموبوليتانية وإن كانت ما زالت محتفظة بسحرها وأسرارها. وستظل الإسكندرية حتي قيام الساعة تغني لسيد درويش تحت المطر وتستمع لأشعار كفافيس وتقرأ كتابات لورانس داريل وسيظل سكانها يحلمون بعودة مدينتهم الجميلة ويشربون فنجان قهوتهم كل صباح بعد صلاة الفجر علي شط البحر.