الإسكندرية مدينة متعددة الثقافات.. نشأت علي ثقافة التواصل ومعرفة الآخر، لكنها مثل مدن مصرية عريقة انتشرت بها العشوائيات، وصاحب ظهور هذه العشوائيات انتشار التيارات والأفكار المتشددة.. وجاءت نتائج انتخابات المرحلة الأولى من مجلس الشعب، بفوز التيار الإسلامي، ليلقى بظلال المخاوف من أن تتحول المدينة متعددة الثقافات إلى موطن للأفكار المتطرفة والمتشددة. "بوابة الأهرام" طرحت السؤال على عدد من المثقفين السكندريين هذه المخاوف ومدى انتشارها بالمجتمع السكندري. الشاعر والكاتب علاء خالد يؤكد أن مقولة الإسكندرية مدينة متعددة الثقافات، هي مقولة من التاريخ الذي تغير بعد التاميم وخروج عدد كبير من الأجانب من مصر ومن تبقى بها منهم عدد قليل جدا، كما بدأ بعدها محاولة لترييف المدينة وهجرة بعض سكان الدلتا إليها، كما أن محاولات جمال عبد الناصر لصنع مركزية بمحافظة القاهرة أثر بالسلب علي مدنية الإسكندرية، بخلاف الأفكار المتشددة التي انتشرت في آواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات من خلال الجامعات خصوصا في الإسكندرية كل هذه الأسباب مهدت لنمو الأفكار المتطرفة والتيارات المتشددة. وأضاف خالد من ضمن الأسباب أيضا حزام العشوائيات الذي أحاط بالمدينة، فغير في شكلها وولد أفكارا جديدة، لكن نتائج الانتخابات الأخيرة أظهرت وجود تخوف من هذا النوع من المد الديني، خصوصا من السلفيين، وفشلهم في عدد من الدوائر الانتخابية بالإسكندرية يدل علي تخوف أكثر من أن يكون دليل وعي. وأشار الشاعر عبد الرحيم يوسف إلي أن تحول مدينة الإسكندرية لم يكن منفصلا عن السياق العام في مصر المتجه للأسلمة منذ السبعينيات، لكن أعتقد أنه شديد الوضوح في مدينة مثل الإسكندرية، باعتبارها هي والقاهرة الأكثر جذبا للسكان طوال القرن العشرين، لكن منذ السبعينيات بدأت الهجرة تتجه لأطراف المدينة بعد تكدس وسط البلد القادر علي استيعاب المهاجرين الجدد في منظومته المدنية ذات المسحة الكوزموبوليتانية. وحسب إشارة يوسف ظهرت في الأفق بعد تلك السنوات مناطق شديدة الكثافة مثل سيدي بشر والمعمورة ثم العجمي والتي كانت قبل ذلك مجرد شواطيء يرتادها الناس لتتحول إلى مناطق سكنية عشوائية خصوصا في الجزء القبلي منها وتبقى مرتعا للتيارات الدينية المتشددة خصوصا في غياب الخدمات والنشاط الثقافي، ناهيك عن المناطق التي ازدحمت حول ترعة المحمودية مثل العوايد وأبوسليمان والعزب المختلفة التي حملت ملامح أقرب للريفية منها للمدينة. وهذا الملعب الكبير كان ساحة كبيرة للتيارات الدينية وفي نفس الوقت للبلطجية والمخدرات في تجاور مدهش لكن له دلالة ومغزى مثير للتأمل. ومن جهته يرى الشاعر حمدي زيدان وعضو جمعية "إسكندريلا للثقافة والفنون" أن تحول الإسكندرية إلي مركز ومعقل للتيارات الدينية المتشددة شيء جديد، لأنها تعيش ذلك من فترة طويلة منذ أوائل السبعينيات، وبعد النكسة فقد المجتمع المصرى كله الإيمان تدريجيا بالحلم القومى والحلم الاشتراكى، واتجه للحل الغيبى والعامود الدينى لتحليل الأمور وإيجاد حلول ولو فى الجنة مش على الأرض، والإسكندرية خاصة كانت موقع وارضية جيدة لنمو التيارات الدينية المتشددة، لأسباب منها بعدها عن المركز والعاصمة، سياسات التهميش الإدارى والثقافى التى رسختها حكومات ثورة 52 وكانت ضد الطبيعة الكوزموبوليتانية للمدينة ورواجها الثقافى والاجتماعى والاقتصادى. وأضاف زيدان أن من الأسباب أيضا عداء حكومات الثورة لكل ما هو أجنبى وغربى وهذا أثر على طبيعة المدينة وسوء معاملتهم والتأميم وخلافه، مما أدى لهجرة عدد كبير منهم، وعمل تجريف للطبيعة الاجتماعية المتسامحة والمتنوعة، وتركت مساحات للقوى الدينية وافكارها الرجعية بدعوى اللجوء للدين. وأيضا إهمال المدينة عمرانيا واجتماعيا ونزوح العديد من قرى الدلتا للإسكندرية ونظرا لضعف المدينة ثقافيا وفقدانها لقوتها الإنسانية والاجتماعية استطاع هؤلاء ترييف المدينة وفرض طبيعة جغرافية واجتماعية وثقافية على أطرافها، ممثلة فى العشوائيات وأخلاقها الممسوخة من الدلتا، وضيق الأفق والتدين المظهرى ولعدم وجود حاضنة ثقافية قوية استطاعت أفكار التخلف والعشوائية والتشدد فى السيطرة على أفكار المدينة ومزاجها الانفتاحى المتعدد والمتسامح. لذا كان فى العشوائيات الفقيرة الملاذ للجماعات الدينية السرية أو العلنية بتحفظ أو مواربة ومنها الإخوان والدعوة السلفية وغيرها، الذين استطاعوا تكوين الجماعات وجذب الأهالى فى العشوائيات والقادمين من الريف، وكان التشدد والتدين المزيف واقيا لهم من طبيعة المدينة المنفتحة والمتحررة. زيدان يوضح أنه على الرغم ذلك فإن السلفيين انكشفوا بدليل نهوض الأهالى في دائرة المنتزة وهى مركز الدعوة السلفية وإسقاطهم لعبد المنعم الشحات المتحدث الرسمى باسم الدعوة فى عقر دارهم، وهذا معناه ثقافيا واجتماعيا كشف المصريين والسكندريين لتلك التيارات وأنهم ضد التعصب والتشدد، مما يعني إمكانية التطور والرجوع إلى القلب الحى للمدينة من خلال التنوع والتعدد والتسامح. ويؤكد الشاعر ميسرة صلاح للإسكندرية طبيعة خاصة تختلف كثيرا عن معظم محافظات مصر نظرا لموقعها التجاري والسياحي وعلاقتها بشعوب البحر المتوسط، وكذلك طبيعتها الثقافية التي تتميز بالانفتاح والرغبة في التعرف على ثقافات الآخرين والتفاعل معهم، ولعل فترة الانفتاح التي شاهدتها مصر في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي وما حملته من رياح للتغيير في الفكر والثقافة بل والتأثير الشديد على الهوية الثقافية والنمط الاجتماعي للمجتمع، أدى لظهور تيارات جديدة أشد تحررا من غيرها وخصوصا في الأوساط الطلابية والشبابية التي تتميز عادة بالرغبة في إثبات الذات والانجراف السريع خلف كل ماهر جديد، ولعل هذا التجمع الضخم من التغييرات لا بد أن ينتج عنه تجمع آخر مضاد أشد أصوليه وتمسكا وهذا ما حدث بالفعل. ويشير ميسرة إلى أن نواة الحركة السلفية اجتمعت في مجموعة من الطلاب الجامعيين الذين لعبت المصادفة دورا كبيرا فى تجميعهم في كليات الطب بجامعة الإسكندرية بتخصصاتها المختلفة وبدأوا نشاطهم فيما يسمى الجماعة الإسلامية، انشقوا عنها بعد سيطرة الإخوان المسلمين وحدوث العديد من الاحتكاكات والخلافات بينهم وبين طلاب الإخوان، ولا سيما على المستوى الفكري والتنظيمي وأنشأوا ما يسمى بالمدرسة السلفية التي باشرت أنشطتها 1977 بقيادة الشيخ الطبيب محمد إسماعيل المقدم الذى تأثر كثيرا بفكر مشايخ السلفية السعوديين من أمثال بن باز وابن عثيمين. ولفت ميسرة صلاح النظر إلى أن التطور كان سريع الغالبية العظمى من المجتمع المصري وخصوصا المجتمع السكندري المتحرر بطبعه في اتجاه وتتطور الدعوة السلفية في اتجاه مغاير تماما ودعم ذلك رفض الجماعة السلفية لأغلبية الأفكار والتيارات السياسية التي توالت تباعا ك (الشيوعية، والديمقراطية، والليبرالية، والعلمانية، والاشتراكية، والرأسمالية) فانتقدت هذه النظريات وهاجمت الداعين إلى تطبيقها في العالم الإسلامي، معتبرة أنها مصطلحات وافدة تصطدم في الكثير من الأحيان بالسنن الشرعية والسنن الكونية. وقال الكاتب عبد العزيز السباعي: إن الأفكار الأصولية التي ظهرت بالإسكندرية هي أفكار مزمنة أي مرتبطة بزمن إلي حين، لأنها أفكار بلا جذور ثقافية عميقة، ووجودها طاريء وعابر لن يدوم طويلا، خصوصا مع نمو تيارات جديدة أخري في الفن وباقي فروع الإبداع، ولن يبقي سوى الفكر الحقيقي، الذي له جذور منذ سنوات في مدينة الإسكندرية، التي لم تتحول لمدينة عشوائية بالكامل، إذ ترتكز العشوائيات في الأطراف لكن قلب المدينة الذي عاشت به الجاليات المختلفة لم يتأثر، كما أن هذه التيارات لن تؤثر علي الإسكندرية لأنها مدينة مبنية علي ثقافة التواصل مع الثقافات الأخري، لذا لن تحاصر بثقافة رجعية.