الشاعر الذي أتحدث عنه هنا هو فؤاد طمان, وهو شاعر سكندري بالمعني الكامل للكلمة, فالإسكندرية بالنسبة له ليست مجرد بلد أو محل إقامة, وانما هي ملهمته أيضا وموضوع شعره, إنه مقيم فيها. وهي مقيمة فيه, علي نحو ما كانت بالنسبة للشعراء والكتاب والفنانين الذين أحبوا الإسكندرية, وأقاموا فيها, وجعلوها مصدر الهام في أعمالهم الأدبية والفنية كلها أو بعضها, من أمثال قسطنطين كفافيس, ولورنس داريل, وسيد درويش, ومحمود سعيد, والأخوين وانلي, وعبدالرحمن شكري, وخليل شيبوب, وأمل دنقل, وأحمد مرسي, ومحمود العتريس, وادوار الخراط, وابراهيم عبدالمجيد, والرحبانية, وغيرهم وسواهم ممن لا أستطيع أن أحصيهم, وكيف أحصي هذه الأجيال التي تتابعت جيلا بعد جيل منذ ظهرت الإسكندرية للوجود قبل ثلاثة وعشرين قرنا حتي اليوم, انتقلت خلالها من أيدي منشئيها اليونانيين الي أيدي الرومان والبيزنطيين, ثم الي أيدي العرب والأكراد والشراكسة والأتراك, وتغيرت لغتها وديانتها, وبقيت شخصيتها هي هي, لأن مكوناتها الأساسية ظلت ثابتة لا تتغير, فهي بأرضها وسمائها, وبرها وبحرها, وأصولها الأولي البشرية والحضارية مدينة مصرية, وهي بنشأتها وسيرتها مدينة متوسطية, والمتوسط هو مجمع حضارات الدنيا التي تواصلت وتشابكت وتحاورت وتزاوجت واختلطت كما لم تفعل في أي مدينة أخري, من هنا تحولت الإسكندرية الي قيمة أو فكرة يعتنقها الإنسان ويعمل بها, ولو لم ينتم للمدينة بأصوله, ويتوارثها الشعراء والكتاب والفلاسفة والفنانون جيلا عن جيل. لم يكن ممكنا في غير الإسكندرية أن تظهر الأفلاطونية الحديثة, فالأفلاطونية الحديثة فلسفة متدينة أو دين متفلسف, ولم يكن ممكنا أن يظهر في غير الإسكندرية, حتي في اليونان ذاتها, شاعر مثل قسطنطين كفافيس, لان قسطنطين كفافيس هلليني معاصر, والإسكندرية حتي اليوم هي عاصمة الهللينية, ولم يكن في غير الإسكندرية, أن يظهر موسيقار مصري مجدد مثل سيد درويش الذي تلتقي في ألحانه موسيقي المشرق والمغرب, وألحان الحداثة والبحارة, والأوبرا الايطالية والفولكلور الغنائي المصري, وباستطاعتنا أن نقول إن الإسكندرية هي العاصمة الأولي أو العاصمة الرمز للثقافة المصرية الحديثة, لأن ثقافتنا الحديثة تأليف مما ورثناه عن آبائنا وأجدادنا وما نقلناه عن الأوروبيين وغير الأوروبيين. السينما المصرية بدأت من الإسكندرية, والمسرح المصري, والأغنية الحديثة, والمسرح الغنائي, وهذه الصحيفة التي أصبحت أولي الصحف المصرية بدأت من الاسكندرية, وبقدر ما نكون أوفياء لهذه الشخصية الكوزموبوليتانية أو الكونية المتجسدة في الاسكندرية نكون أوفياء للنهضة, وبقدر ما نفرط فيها ونتخلي عنها نفرط في النهضة ونتخلي عنها, وهذا ما حدث للأسف في النصف الأخير من القرن العشرين, فسياسة التمصير التي كان يمكن في ظل نظام ديمقراطي أن تؤدي الي مشاركة عادلة بيننا وبين المهاجرين الأجانب في الخبرة والثروة تحولت في ظل الديكتاتورية العسكرية وخاصة بعد هزيمة يونيو الي سياسة تصحير استفاد منها ملوك النفط والأثرياء الجدد القادمون والعائدون من الدول المجاورة, فالاسكندرية اليوم مدينة متنكرة, تدير ظهرها للبحر, وتستحم بالنقاب, عائدة القهقري الي عصور الظلام التي تهدمت فيها المنارة وتحولت الي قلعة خربة! ولقد استطردت طويلا في حديثي عن الإسكندرية, لكنني لم أبتعد عن موضوعي, وهو شعر فؤاد طمان الذي يدور حول الإسكندرية, فإن ابتعد عنها عاد إليها ملهوفا يفيض بحنين عذب لما كانت عليه وحزن أسيف لما آلت إليه, وخاصة في قصائده الأخيرة التي تبدو وكأنها مرثيات أو وقفات علي الأطلال, في قصيدته التي سماها زرقة مبتلة بالنور يقول لمن أهدي لها القصيدة: عندما كنت في مثل سنك كنت أنا حارس الليل والبحر أخرج مبتهجا في العراء الي أن يضيع الرفاق فأبقي وحيدا تعذبني الظلمة الحالكة عندما كنت في مثل سنك كنت أخوض الظهيرة مستمسكا بوعود النهار المنور من بعدها ضاع مني الطريق وقد خلت الأرض من أهلها واختفت في رمال الصحاري المدينة والحرس المرتجي وسقطت وحيدا علي مدخل القلعة المتهاوي وأدمي يدي سور أسلاكها الشائكة! كم خرجت إلي موعد كاذب ضربته المليكة لي في الظهيرة حتي أفقت علي لسع جمرتها بعدها, كان لابد أن أجد الزمن المستحيل وأسبر غور ممالكنا الهالكة! هكذا انتهي بالشاعر وقوفه علي أطلال المدينة التي اختفت في رمال الصحراء الي أن يبحر في تاريخها ويسبر أغواره, ويسأله عما يخبئه في الأيام القادمة: موعد كاذب آخر, أم فجر جديد؟ وهو لا يقطع حتي نهاية القصيدة بجواب, لأنه يري زرقة ناعمة, أو عتمة مبتلة بالنور لا يدري لمن تكون الغلبة, للنور أم للعتمة: عندما اشتعل الرأس شيبا عثرت علي الزرقة الناعمة كالغصون الرطيبة مبتلة بالندي وبضوء شفيف من الفجر آت ليسبقني والطيور ويقتحم الظلمة الأزلية آت ليقتحم الظلمة القادمة!