قامت الثورة في مصر علي الإستبداد والظلم والفقر والإضطهاد.. لكنها كشفت أيضا عن سلوكيات خاطئة نمارسها يوميا كحوارات ضيقة الأفق... مقطوعة الأنفاس... فاقدة المنطق.. وعنيفة اللهجة!!.. صرنا بحاجة مسيسة إلي ثورة- علي التوازي- تقودنا إلي عصر التنوير, وعصر التصوير, وعصر الرواد.. وكل عصور العلم والمعرفة التي عرفتها الإنسانية كي نستعيد مكانتنا مرة أخري بين العالم المتقدم. آن الآوان أن تنطلق ثورة الفكر والمعرفة كتلك التي قام بها والي مصر محمد علي باشا سابقا!!.. حينما أدرك قيمة الاحتكاك بأوروبا, فأرسل البعثات العلمية التي تدرس العلم والأدب والفنون وتترجم روائع الفكر. من جانبها, تشير دكتورة هدي وصفي أستاذة الأدب الفرنسي إلي أن مصر- حاليا- منكوبة بأصولييها وتجار الدين غير المدركين لجوهر الدين الإسلامي ورسالته السمحة علي حقيقتها!!.. علما بأن الشيوخ وعلماء الدين هم من دفعوا بقطار التطوير في الماضي, كان في مقدمة هؤلاء: الشيخ حسن العطار, والشيخ رفاعة الطهطاوي, والشيخ محمد عبده, والشيخ الكواكبي, وغيرهم... وتستشهد بموقف يذكره التاريخ للشيخ رفاعة الطهطاوي, حين كان مطران باريس يبرر لجيوش فرنسا الاستيلاء علي الجزائر بحجة تطويرها وإرساء الحريات فيها.. وقد تصدي له الشيخ الجليل, فاضحا نياته الخبيثة في تبرير احتلال الجزائر حيث كانت فرنسا تطمع في استغلال حقول الكروم الذي يدخل في صناعة النبيذ. وتضيف د.هدي قائلة: بعد احتلال دام أكثر من130 سنة للجزائر, رحلت فرنسا عنها وقد خلفت من ورائها فكرة الإرث الإسلامي, ودعمت معه تيارات دينية متطرفة. وهو أيضا ما فعلته باقي القوي الاستعمارية في دول المنطقة. الهدف من هذا المشروع أن يكون بمثابة حلم للشعوب عندما تصطدم بهويتها أو تفتقدها, وتعجز عن مواجهة التفوق الغربي.. هنا يتجدد لدي الشعوب المقهورة المستضعفة حلم الخلافة والعصر الذهبي للقرون الأولي في دولة الإسلام.. غافلين أن القرون الأولي بدأت بمقتل عثمان بن عفان, واستشهاد علي بن أبي طالب,.. كما شهدت فتنا وانقسامات, وقتالا علي السلطة, وطمعا في المناصب الدنيا.. أي أنها فترة ليست إستثناء!.. لها ما لها, وعليها ما عليها شأن كل العصور لم تكن سنوات ذهبية كما يروج البعض. في هذا الصدد, يذكر المفكر والفيلسوف عاطف العراقي رحمه الله أنه لا تنوير دون العقل.. فاذا كنا نجد أناسا يتحدثون عن التنوير, ويحاولون إقامة مشروع تنويري يعتمد في جانب أو أكثر من جوانبه علي عناصر غير عقليه, فان محاولتهم هذه تعد خاطئة قلبا وقالبا.. ويقيني انهم يسعون الي الظلام وليس الي النور.. نجد هذا في الاتجاهات السلفية والاتجاهات الاصوليه, تلك الاتجاهات التي تطلب منا الرجوع الي الوراء والصعود الي الهاوية, وتتغني بالتراث, وكأنها تبكي علي الاطلال. إذ كيف نتغافل عن أقدس ما في الانسان؟ وهو العقل. الأفكار وقود الثورات يحكي أن لويس السادس عشر ملك فرنسا- أيام الثورة الفرنسية- عندما أطل من نافذة سجنه في باريس, وجد الشعب حاملا نعش فولتير الذي نقلوه من قبره الوضيع, وكانوا يريدون دفنه في ضريح العظماء. فقال الملك المخلوع وهو يشير الي النعش: كل ما أنا فيه من المصائب,, جاءني من هذا الرجل. لا شك أن الكاتب الفرنسي فولتير كان من أكثر المنتقدين للحاكم في عهده.. وأكثر المدافعين عن الإصلاح الاجتماعي, والحريات المدنية- خاصة حرية العقيدة. كان يري أن عامة الشعب يعانون من الجهل ويؤمنون بالخرافات.. بينما يقتصر دور الكنيسة علي جمع الضريبة الدينية أو ضريبة العشر من الفرنسيين!!. بالنسبة لفولتير, الملك المستنير أو الشخص المستنير المنفرد بالحكم- والذي يسمع لنصح الفلاسفة- هو الوحيد القادر علي أن يغير في مجريات الأمور.. أي أن الاستبداد المستنير هو مفتاح التقدم والتغيير. يظل السؤال هنا حائرا: أيهما أقرب إلي المنطق.. أن يأتي عصر التنوير أولا, فيكون قاطرة الثورات الإجتماعية والسياسية؟.. أم أن الثورة, التي تمثل كسرا للجمود وتمردا علي الواقع, هي قادرة أن تأتي في عقبها بعصر التنوير؟.. تجيب د.هدي وصفي بأن عادة ما يكون التعليم الجيد, وإعمال العقل, والاحتكام إلي المنطق هو وقود الثورات الاجتماعية والسياسية الناجحة, التي يترتب عليها فيما بعد بناء الدول الحديثة كما حدث في المجتمعات الأوروبية. إذا تأملنا الثورة الفرنسية, سوف نجد أن الطبقة الوسطي المتعلمة هي من قادت الفقراء والفلاحين, وأنجحت الثورة بهم. أسماء عديدة تقدمت صفوف الشعب من المفكرين والفلاسفة والمصلحين وعلماء التاريخ والاجتماع منها: فولتير, مونتسكيو, جون جاك روسو, ديدرو, وميرابو( خطيب الثورة).. كان لهؤلاء جميعا دور عظيم في رفع الوعي وبث الروح الثورية عند الناس, وهكذا تيسر للفرنسيين أن يعيشوا حركة فكرية ونهضة معرفية. وتسترسل قائلة: كذلك في مصر, ومنذ بداية عام2000 تقريبا, بدأ الحراك في الشارع المصري حيث تصدر المشهد طبقة المثقفين وأساتذة الجامعات والمتعلمون. راحوا جميعا يعلنون رفضهم لسياسات القمع والتعذيب, واضطهاد الأقليات الدينية والعرقية.. إلي جانب ذلك, طرحت قضايا عديدة علي الرأي العام من قبل المثقفين والإعلاميين, وكانت مجالا لكتابات نقدية مختلفة حول الفساد والتزوير, وإنتشار العشوائيات, وغلاء الأسعار... بعض من هذه الكتابات النقدية طرحها مفكرون يعيشون بيننا اليوم مثل الفقيه الدستوري د. نور فرحات.. وهناك كتابات لمثقفين رحلوا عن عالمنا شأن أعمال المفكر فرج فودة, وأديب نوبل نجيب محفوظ, خاصة في آخر أعمالهما. الشيخ متلوف حقا, ما الحياة إلا مسرح كبير!.. ولكن كيف تكتمل رسالة التنوير إلا بمد الجسور مع الفكر العالمي عبر تعريب روائع الفكر الإنساني كما نصح كاتبنا الكبير الدكتور طه حسين؟!.. فلا مستقبل لأمة تغمض عينيها عن ثمرات الفكر والأدب. من أجل ذلك الهدف, خاض عميد الأدب العربي معارك ضارية طوال حياته مدافعا عن رسالة التجديد التي يؤمن بأهميتها علي الثقافة المصرية. توضح هنا د.هدي وصفي أن المسرح الأوروبي كان في العصور الوسطي يعطي الأولوية لعرض تمثيليات دينية تدور حوادثها حول حياة المسيح وتمثيليات أخلاقية يشخص فيها المملثون بعض الصفات والمعاني الأخلاقية والتي كانت تشرف عليها جمعيات دينية أو خيرية. وقد انتهت هذه الظاهرة بشكل واضح في أواخر القرن السادس عشر. وحل محلها مسرحيات من الثقافة الكلاسيكية والهزلية الساخرة باللهجة المحلية شأن ما قدمه موليير. وتسترسل: من منا لا يذكر مسرحية الشيخ متلوف المستوحاة من رواية ترتوف لموليير؟.. والتي قام بتمصيرها الكاتب عثمان جلال. لقد نقلها بمنتهي الأمانة, لتقف إلي جانب الرواية الأصلية لموليير موقف الند للند! بطل هذه الرواية شخصية تعيش في كل العصور! هو رجل دين منافق يدعي الصلاح.. كتبها موليير بهدف فضح المنافقين المتسترين وراء الفضيلة المدعين الورع والتقوي. كان علي عثمان جلال أن يحول رجل الدين إلي شيخ دون أن يتعرض لما تعرض له موليير في فرنسا من عنت رجال الدين وثورتهم عليه. رغم أن الموضوع كان شائكا, استطاع جلال ببراعته أن يراعي التقاليد الإسلامية وعادات أهل الشرق.. كما أضفي عليها خفة الدم المصري وجعلها تزخر بصور مستوحاة من البيئة المصرية.. شأن روايات أجنبية عديدة قام بتمصيرها وتقديمها للجمهور المصري. أمام توقف مشروع التنوير في مصر الذي بدأه محمد علي باشا بسبب الحروب الاستعمارية, والتدهور الاقتصادي, وتربص الغرب ببلادنا في محاولة للنيل من خيراتنا.. تؤكد د.هدي ضرورة الاستثمار في البشر والذي يبدأ من نقطة الارتقاء بالتعليم.. وهي مهمة قومية لا يجب أن نسندها فقط إلي الحكومة.. وإنما يقع جزء منها علي عاتق المجتمع المدني أيضا. كما يجب أن نعتمد علي أنفسنا في بناء الوطن كما فعلت الشعوب المتقدمة حتي صنعت مجتمع الرخاء في بلادها.. من خلال سياسات منضبطة حازمة. في إنجلترا في أثناء الحرب العالمية الثانية كان الفرد يصرف له بيضة واحدة في الأسبوع.. وفي دول أوروبية أخري كانوا يعتمدون علي الكرنب واللفت المسلوق فقط كغذاء لهم.. وكانت الشعوب تتقبل ذلك عن طيب خاطر لأن الهدف أثمن وأعظم. فلتكن البداية بالاستثمار في البشر.. ووجود إنسان جديد يتسلح بالعلم والمعرفة.