إذا كانت الديمقراطية هي سيادة الشعب علي نفسه, فإن لكل إنسان الحق في السيادة علي أفكاره, وحيث أن الدين رسالة الإله الي كل شعوب العالم, فإن العقل قارئ ومفسر هذه الرسالة يلزم أن يكون شعبيا. لعل هذه المقاربة بين الدين والديمقراطية تؤكد علي قيمة' المساواة' بين البشر التي تتجلي في العقل أعدل الأشياء قسمة بين البشر من ناحية, وتكشف عن سمة مميزة للتنوير الفرنسي من ناحية اخري. ويمكن الدخول الي عصر التنوير تحت شعار رفعه الفيلسوف الألماني كانط:' تجرأ علي المعرفة, وليكن لديك الشجاعة علي استخدام فهمك الخاص بنفسك'. لم يكن التنوير عامة والفرنسي خاصة رافضا للدين بحد ذاتة علي الإطلاق, إلا فيما عدا بعض الاستثناءات في فرنسا تحديدا, ومع هذا فإن أهم ما يميز التنوير الفرنسي عن مثيلة الألماني أو الانجليزي أنه لم يستغرق في دراسات تأويلية للنص المقدس, إنه يري مهمته في الإحاطة بالحجج والبراهين التي تخدم موقفه العقلي بإزاء القضايا أو المشكلات المثارة. يقول فولتير:' لنؤمن بالإله ولكن لنرفض أن نتحدث عن طبيعته, ونرفض أن نتحدث عن كيفية أفعاله,' ثم يطرح أسئلته: ماهي العدالة؟. إن المجرمين يكافأون والعادلين يألمون, وإن الشبان والأطفال يموتون دون أن يستطيع أحد أن يقول لماذا؟ ماهي الحقيقة؟ إنها جهل أبدي, إن حدود عقلنا عند نهاية أنفنا. ومادمنا لا نستطيع تغيير شئ من الآلام التي لسنا مسئولين عنها, فلنلطف علي الأقل, الآلام التي نصنعها نحن انفسنا, ولندافع عن أنفسنا بالحكمة والإعتدال, ولنستفد بصورة أكبر انتباها بالخيرات التي قدمت إلينا, أي الصور الكاملة للمدنية وإستقلال العقل'. إن رجل التنوير عند فولتير هو من يجعل من العقل أنوارا ضد ظلمات الفكر الأعمي الذي يبدو غارقا فيها, إنه علي النقيض من الجهل, الأحكام المسبقة, الخرافة إنه يفتح عيون الروح بأكبر و أوسع ما يمكن. وقد جاء في( الموسوعة الفرنسية) أو قاموس العلوم والفنون والمهن التي ظهرت أجزاءه السبعة عشر بين عامي17651751' إن العقل بالنسبة للفيلسوف يمثل النعمة الإلهية بالنسبة للمسيحي, فكما تحتم النعمة علي المسيحي أن يعمل, يحتم العقل علي الفيلسوف أن يعمل..' إن العقل بهذا المعني لا يجرد الدين من تأثيره الروحاني أو الأخلاقي بوصفه إيمانا حرا في معناه لكن يحول دون الزحف الظلامي للجهل والخرافات تحت مسمي ديني. إن المعرفة ليست في حد ذاتها ما يمكن إعتقاده فحسب, بل هي ممارسة ناقدة للعقل الإنساني ماثلة في تأمله, تفكيره, تجاربه, ولا يقبل الحقيقة إلا بعد أن تتجلي واضحة في العقل. ومن استعمال العقل تأتي الحرية, فمفهوم الحرية عند التنويريين هو حرية المرء في استعمال عقله. وإذا كان القائد العسكري يقول: لا تتعقلوا ونفذوا الأمر, ورجل المال يقول: لا تتعقلوا وادفعوا, ويقول القسيس: لا تتعقلوا وآمنوا, فإنه من قبيل المخاطرة أن تتم مناقشة هذه الأوامر بدلا من القيام بها, ولذا فإنه من الصحيح علي نحو تام أن يتم تغيير في عقول أولئك الذين يأمرون أي بوصفهم كائنات عاقلة او مفكرة, ومن ثم يتحول الأمر من كونه وصاية أو سيطرة إلي ممارسة للحرية في ظل العقل. ويلخص' ديديرو' أحد رواد التنوير الفرنسي مشكلة العلاقة بين الدين والتنوير في كونها كامنة في نوعية' المعرفة' حيث ينقسم الناس في ظل معرفتهم الإيمانية الي طوائف تتفاوت كثرة وقلة. ومن ثم فإن المسألة تتطلب رجل التنوير, فالجندي يدافع عن الوطن والتنويري يعلمه ماهو الوطن, والكاهن يوصي الشعب بإحترام الإله والتنويري يعلمه من هو الإله, والملك يأمر الجميع, والتنويري يعلمه أصل سلطته وحدودها'. لقد طرح التنوير الفرنسي رؤيته في مواجهة سلطة المثال والتقليد والعادات التي جسدتها الخرافات ودعمتها الكنيسة آنذاك. إن إحالة الأمور الإيمانية الباطنية الي كهنة إختصاصيين من وجهة نظر التنوير أخرجت المعرفة من دائرتها الإجتماعية, هذه الدائرة التي تتيح تقاربا معرفيا بين عامة الشعب وحكمائه. إن المسألة خارج إطارها الإجتماعي تبدو رسالة موجهة الي عامة الناس بأنه ليس مطلوبا منهم التفكير حيث أن هناك أناس مختصين يتولون هذه المهمة بالنيابة عنهم. لقد أوضح' مونتسكيو' أحد رواد التنوير الفرنسي المشهور بكتابة ذائع الصيت' روح القوانين' أن ثمة علاقة بين الإله وبين سائر الكائنات المختلفة, وعلي هذا' فإن الذين قالوا بأن قدرا أعمي هو الذي أنتج كل النتائج التي نراها في العالم, إنما قالوا بتناقض عظيم إذ أي تناقض أعظم من أن قدرا أعمي يمكن أن ينتج كائنات عاقلة' إنها علاقة ضرورية بين الخالق وسائر الكائنات الأخري, إنها علاقة نتيجة وعدالة وطالما أن الشخصيات العاقلة محدودة بطبيعتها, ومن ثم فإن إمكانية الوقوع في الخطأ واردة بإستمرار بالنسبة للإنسان' فإنه لا جرم أن كائنا كهذا يمكن أن ينسي خالقه, ومن ثم فإن الإله ذكره بنفسه عن طريق قوانين الدين( الشرائع). إن كائنا كهذا يمكن في جميع اللحظات أن ينسي نفسه, ومن ثم فإن الفلاسفة قد أنذروه بوساطة قانون الأخلاق. وبوصف أنه مخلوق ليحيا في المجتمع, فإنه كان يمكن أن ينسي فيه الآخرين. ومن ثم فإن المشرعين قد ردوه الي واجباته بوساطه قوانين سياسية ومدنية'إن' مونتسكيو' يؤكد أن قوانين التنظيم الإجتماعي لها علاقة بالإله من خلال حكمته وقدرته التي تتجلي مع الناس الذين تربطهم روابط الدين والأخلاق, فقد خلق الإله البشر متساويين إلا أن المساواة في ظل الحكم الإستبدادي مساواة في العدم, لأنهم ليسوا شيئا في حين أن المواطنين في الديمقراطية متساوون لأنهم كل شئ, وضد اسبتداد التقليد أو الخرافه, ومن أجل المساواة الحقيقية التي خلقها الإله, تتجلي رؤية التنوير في أنه لا يمكن التعامل مع الدين' من قبل مختصين' بل من خلال عمل كلي للمجتمعات وكيفية تطورها, ومن هنا ينبغي الحديث عن' محو الأمية الدينية' من خلال إلتزام فكري, عقلي, نقدي يمنع الإستغلال السياسي لبساطة أو سذاجة الفهم الديني لدي عامة الناس, وفي الوقت نفسه يتيح الفرصة لعدم التعصب أو التسامح, فالمعرفة ليست عدائية للدين, وفي المقابل لا يعني احترام الدين مصادرة المعرفة, وكما يري مفكر عصر التنوير الفرنسي' كوندرسيه'..' إنه لكي تتأسس الممارسة المستنيرة للمواطن أيا كان دينه, يجب امتلاك حق التفكير الناقد'. إن المعرفة الدينية والتراث الثقافي والديني للبشرية, بالإضافة للمعارف والعلوم الانسانية التي تمثل قواسم مشتركة لا تعني استمرارية ثقافة معينة فحسب, بل تسمح لكل انسان ان يسجل تاريخه الخاص من خلال ما هو عام ومشترك. إن قيمة التنوير عند مونتسكيو هي كراهية العيش في' زمن الجهل' دون معاداة للدين, ولذا فأنه لم يبحث في الدين إلا للخير الذي يعم في الحالة المدنية التي تعني مؤسسات إنسانية فحسب وفقا لطريقة تفكير مدنية, وليس بوصفها حالة لها علاقة مع حقائق أكثر سموا, وهذا ما تؤكدة عبارته في كتابة' دفاع عن روح القوانين':' إن الدين المسيحي, الذي لا يبدو له موضوعا غير السعادة في الحياة الأخري, يصنع أيضا سعادتنا في هذه الحياة, وهذا أمر مثير للأعجاب'. ولعل كلمات' بول هازار' توجز في عبارة بليغة عصر التنوير' أخذ الإنسان المتعب, بدلا من الإلتفات الي الوراء من أجل البحث عن العصر الذهبي في الماضي البعيد, يضع آماله علي مستقبل أكثر قربا'. H أستاذ الفلسفة بجامعة طنطا لمزيد من مقالات د. ياسر قنصوه