كارثة مصر لا تكمن في «ولاية الفقيه» التي سقطت كالصاعقة علي رؤوس المصريين مطلع الأسبوع الجاري بالرسالة الغريبة والمستفزة التي بعث بها مرشد إيران و17 من مستشاريه إلي الرئيس مرسي لتطبيق هذه الولاية في مصر بعد قمع المثقفين، إنما كارثتنا الحقيقية تكمن في انسحاب المثقفين المصريين من المشهد السياسي برمته، فلا وجود لفلاسفة ولا مفكرين ينيرون الطريق للثوار والحكام أو حتي العامة الذين تاهوا وسط الزحمة، هذا الانسحاب هو الذي جعل من مصر «أمة مهزومة» وهي في عز عرسها الثوري، واستسلامنا لهذه الحالة يجعلنا فريسة سهلة لكل أنواع الولايات (بدءاً من ولاية الفقية وانتهاء بولاية الشيطان المستعمر). والحقيقة أن نظام الخميني ينقل عداءه التاريخي مع المثقفين إلي المشهد المصري، ذلك العداء الذي أدي إلي قتل 7 أشخاص وإصابة 50 آخرين من منظمة مجاهدي خلق الإيرانية في هجوم صاروخي استهدف معسكر الحرية الواقع قرب مطار بغداد الدولي قبل أيام. والمعروف أن منظمة مجاهدي الشعب الإيراني أو منظمة مجاهدي خلق الإيرانية هي أكبر وأنشط حركة معارضة إيرانية، إذ تأسّست المنظمة عام 1965 علي أيدي مثقفين إيرانيين أكاديميين بهدف إسقاط نظام الشاه في إيران آنذاك. وبعد سقوط نظام الشاه نتيجة «الثورة الإيرانية» التي أدت منظمة مجاهدي خلق دورًا كبيرًا في انتصارها، بعد أن أعدم نظام الشاه مؤسسيها وعددًا كبيرًا من أعضاء قيادتها، ظهرت خلافات بينها وبين نظام الحكم الإيراني الجديد، وصلت بعد عامين ونصف العام من الثورة إلي حد التقاتل بين الجانبين في صراع محتدم ومستمر حتي الآن. وإذا كانت الثورة الإيرانية تستمد وجودها من ملاحقة المثقفين والتنكيل بالمعارضين فهذا الخيار ليس هو الأمثل لانتشال الثورة المصرية من كبوتها، فنحن أمة منكسرة سياسياً ومنقسمة اجتماعياً ومهزومة اقتصادياً، أي أننا أقرب للحالة الفرنسية، ففرنسا قبل الثورة كانت امبراطورية علي شفا الإفلاس مجروحة في كبريائها الوطني بكل آلامها وآمالها، وفرنسا لم تكن مختلفة عن غيرها من الأمم الأوروبية آنذاك، شعوب فقيرة مظلومة وحكام فاسدون مستبدون، لكن ما غير المشهد الفرنسي ودفع الشعب إلي الثورة كان كتيبة من ألمع العقول الفرنسية في كل المجالات الفكرية والفلسفية قادوا النهضة الأوروبية الثانية في أوروبا في القرن الثامن عشر الميلادي. واستطاعت هذه الكتيبة التي ضمت «موليير» و«فولتير» و«روسو» و«مونتيسكو» و«دريدور» وكثيرين غيرهم إنارة عقول الفرنسيين، ومن خلفهم بقية الشعوب الأوروبية وبشروا بقيم جديدة تعلي من قيمة الإنسان وترسخ لحقوق المهمشين والمطحونين أمام قهر الظروف الاقتصادية وجبروت الملوك أنصاف الآلهة والكنيسة البطريركية التي كانت تبيع الإيمان بالمال. كان لهؤلاء الفلاسفة فرسان النهضة الدور الأكبر في التمهيد للثورة، فحرثوا الأرض الفرنسية لاستقبال بذرة الثورة، وجاءت كتاباتهم للتبشير بالثورة، إضافة إلي الوضع الدولي المتصارع والمضطرب. ثارت ثائرة النخبة الفرنسية المثقفة علي تردي الأوضاع داخل البلاد، وضياع هيبة فرنسا أوروبياً وتحولها إلي قوة من الدرجة الثانية، فانكفأت النخبة المثقفة التي مثلها فولتير وروسو ومونتيسكو ودريدور يبحثون عن الحل للخروج من النفق المظلم الذي دخلته فرنسا وبدا أنها لن تخرج منه إلا بأطروحات جديدة غير مألوفة، فقد كانت فرنسا في هذا الوقت مجتمعاً في أزمة لا يستطيع الخروج منها، فجاء المفكرون الفلاسفة الكبار بأطروحات جديدة لعبور الأزمة الطاحنة. لقد وجدت فرنسا المهزومة عسكرياً بعض التعويض المعنوي في تفوقها الثقافي الذي أطلق عصر التنوير وبدأ بسجن «فولتير» بعد كتابته قصيدة ينتقد فيها أوضاع المجتمع الفرنسي، وكانت هذه القصيدة كافية ليزج به في سجن الباستيل الرهيب عاماً كاملاً وهو في السابعة عشرة من عمره. وكان هجوم «فولتير» منصباً علي التدخل الكنسي في شئون الحياة اليومية للفرنسيين، ومنتقداً الوجه القاسي للكنيسة الكاثوليكية التي لا تعرف التسامح، ويقول إن الخرافات هي من صنع وابتكار القساوسة والكهنة فهم الذين صنعوا علم اللاهوت كما أن الخلافات هي من صنع وابتكار اللاهوت وهي سبب النزاعات المريرة والحروب الدينية. وفي مضمار آخر لم يكن أحد يتصور في أوروبا القرن الثامن عشر أن جان جاك روسو (1712- 1778م) المعروف ب «مجنون جنيف» لغرابة أطواره، سيكون واحداً من أهم منظري الثورة، إن لم يكن أهمهم علي الإطلاق، بل إن مؤلفه الرئيسي «العقد الاجتماعي» سيعد بلا جدال «إنجيل الثورة» الفرنسية. لقد فند «روسو» أصول الملكية الأوروبية عامة والفرنسية الخاصة، وأرسي قواعد العقد الاجتماعي الجديد الذي يحمل صراحة مساواة واضحة بين المحكومين والحاكم، وبذلك يكون روسو قد أعطي الشعب الفرنسي مفتاح الثورة بعد أن أسقط نظرية الحق الإلهي للملوك في الحكم، وجعل بكتاباته الديمقراطية أمراً ممكناً بعد أن قال إن «جميع الناس متساوون» في الآلام والأفراح. وبإعلاء «روسو» من قيم العاطفة، وإعلاء «فولتير» من قيم العقل يكون الإطار النظري التمهيدي للثورة قد اكتمل بثنائية العقلانية والعاطفة أو العقل والقلب، وتكون الثورة الفرنسية قد أكملت منظومتها الفكرية التي ستدور في فلكها، أما ثورة المصريين فلا تزال تبحث عن «مرشد ثقافي» يحدد بوصلتها بعيداً عن مخالب المتربصين.