التفاوض اليوم بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية والدول الغربية, لا تعتبره إيران عملا يتعلق بدخولها النادي النووي فقط, ولكنها تعتبره جهادا دبلوماسيا, والأمر إذا نظرنا له من زاوية البعد الإيماني للمسلمين فكل عمل يقومون به يفترض أن يكون جهادا وخاصة الأكبر منه, حيث المواجهة الدائمة لنوازع النفس وفساد الآخرين وللقضاء علي المنكر, لكن ماذا لو تناقض هذا الجهاد أو تضارب مع الصالح العام للمسلمين؟ لا أعتقد أن هناك ما يبرر تلك التناقضات التي نعيشها في العالم الإسلامي اليوم وخاصة تلك الأطراف الفاعلة في العالم الإسلامي, وبالتحديد تركياوإيران, وسنتناول هذه الأخيرة عبر علاقتها مع العرب الجزائر نموذجا من خلال ما أصبح يعرف بالجهاد الدبلوماسي. كنت, ولا أزال, من المقتنعين بالتأثير الإيراني في العالم الإسلامي منذ ثورة محمد مصدق وإلي الآن, بما فيها الفترة التي حكم فيها الشاه إيران, غير أن هذا التأثير له جوانبه السلبية أيضا, فإيران الدولة ليست هي إيران العقيدة, حتي إنه لا يمكن أن نجد خلافا في الغالب الأعم بين الإيرانيين بما فيهم جماعات المعارضة, التي تقيم في الخارج حول أن تصبح إيران دولة نووية, ما يعني أن الوطن يمثل لديهم أسبقية عن الدين في بعده العالمي, وهم في ذلك عكس الذين يتحالفون معهم داخل بعض الدول العربية, أولئك الذين لا يلقون بالا للدولة الوطنية, ولا يؤمنون بأن وحدتها وقوتها وانتصارها عوامل قوة للأمة الإسلامية. غير أن مسألة الجهاد الدبلوماسي التي نتحدث عنها الآن ليست وليدة اللحظة بغض النظرعن إن كانت مجرد تسريب لمفهوم أو تحويل لفعل أو تأكيد لحقائق فحسب المعايشة والتجربة بدأ الترويج لهذا المفهوم, وإن لم يعلن صراحة منذ انتصار الثورة الإيرانية. يكفي أن أسوق, انطلاقا من تجربة الجزائر مع إيران, المثال التالي: ففي الأيام الأولي لمحاولة إخراج العراق من الكويت بالقوة من خلال التحالف الدولي المعروف, كنت في طهران والتقيت ب حجة الإسلام علي أكبر محتشمي, وزير الداخلية الإيراني الأسبق. وفي حوار مع محتشمي أشار إلي أمرين في غاية الأهمية: الأول: أن علي إيران أن تدخل الحرب إلي جانب العراق معتبرا الرئيس صدام حسين مثل خالد بن الوليد كان كافرا في أثناء حربه مع إيران وأسلم الآن, ولذا يجب الوقوف إلي جانبه لأن الولاياتالمتحدةالأمريكية سيأتي يوم وتحارب إيران, أو علي الأقل تطوقها وتمنع نشاطها وتحاصرها. الأمر الثاني: أن الإيرانيين تعلموا المقاومة من الثورة الجزائرية وخاصة من الجميلات الثلاث جميلة بوحيرد, جميلة بوعزة, وجميلة بوباشا, وهو محق في ذلك إذا ما نظرنا إلي ثالوث الفكر الذي اعتمد كمرجعية في العالم الإسلامي في ذلك الوقت من خلال المفكرين الثلاثة: الجزائري مالك بن نبي والإيراني علي شريعتي والباكستاني محمد إقبال. وبعد شهور من هذا اللقاء وفي السنة نفسها, كنت أجلس علي مقربة من وفد لبناني في مأدبة غداء أقامها علي شرف الوفود المشاركة الرئيس الإيراني علي أكبرهاشمي رفسنجاني. كان ذلك في نوفمبر عام1991, ضمن فعاليات اتخاذ موقف من مؤتمر مدريد الذي كان العرب يتجهون فيه نحو سلام مع إسرائيل, وكانت الجزائر في ذلك الوقت تعيش تجربة الإسلام السياسي, وبدت في الأفق خلافات بين الدولة الجزائرية والجبهة الإسلامية للإنقاذ, وفهمت من الوفد اللبناني تحديدا أنه مهما يكن تأييد الجزائر في الماضي للثورة الإيرانية, بما في ذلك دعهما الخميني في فرنسا, ما كانت لتحظي بدعم من إيران والأحزاب الإسلامية التي تدور في فلكها مادامت تمنع أوحتي تعرقل وصول الإسلاميين إلي السلطة, لكن ما علاقة هذا بالجهاد الدبلوماسي؟ علاقته أنه حين بلغت الثورة الإيرانية أوجها وتوترت العلاقات مع الولاياتالمتحدةالأمريكية كانت الجزائر هي الراعي لمصالح إيران في الولاياتالمتحدة, ومن هنا تمكنت الجزائر عن طريق التفاوض من إطلاق سراح الرهائن الأمريكيين الذين كان يقود عملية رهنهم آنذاك الطالب الجامعي محمود أحمدي نجاد, الذي صار رئيسا لإيران بعد ذلك. كانت إيران تعتبر ما تقوم به الجزائر جهادا دبلوماسيا مقدرا, حتي إذا ما دخلت الجزائر في دوامة الدم واغتيل الرئيس محمد بوضياف نجدها تصدر بيانا تؤيد فيه اغتياله, ومن هنا قطع رضا مالك العلاقات الدبلوماسية معها, المدهش في الموضوع أن هذا الرجل كان هو سفير الجزائر في الولاياتالمتحدةالأمريكية أيام أزمتها مع إيران, وهو الذي رعي مصالحها, بما في ذلك علاقتها بالبيت الأبيض. كل ذلك لم يشفع للجزائر في علاقتها مع إيران, لا جزائر الثورة, ولا جزائر الدولة ولا حتي جزائر التي حاولت جاهدة أن تكون في صف إيران خلال حرب الثماني سنوات مع العراق باعتبارها دولة وقع عليها الظلم, وحاولت من خلال دبلوماسيتها إيقاف تلك الحرب التي ذهب ضحيتها وزير خارجية في الجزائر محمد الصديق بن يحيي, وقد ضاع دمه هدرا بين الأجواء الإيرانيةوالعراقية, وإن كانت بعض المصادر ترجح تفجير طائرته بصاروخ عراقي. إذن, الجهاد الدبلوماسي في المنظور الإيراني خاص بإيران فقط, وهو نوع من الدبلوماسية الوطنية التي ترعي مصالح إيران وهذا من حقها, لكن الترويج لمفهوم ديني ضمن المفاوضات يفترض فيه أن يراعي الحدود الدنيا لحقوق المسلمين الآخرين, لا أن يكون التحالف قائما مع الآخرين كما هو مع الولاياتالمتحدةالأمريكية في أثناء غزوها للعراق عام2003 بعلمها وبوجودها بعد ذلك في العراق, كما جاء في الحوار الذي أجراه غسان شربل رئيس تحرير جريدة الحياة مع هوشيارمحمودزيباري, وزير خارجية العراق هذا الأسبوع. بعد هذا كله, أليس من المطلوب أن ننظر للأمر علي المستوي العربي أيضا برؤية مختلفة تراعي مصالحنا العربية, دون الاصطفاف في صف الحب أو الكراهية؟. أولويتنا اليوم أن يعود الاستقرار إلي الدول العربية, وأن تكون لدينا دولة قائدة تؤدي إلي خروجنا من الأزمة, ومصر من وجهة نظري مؤهلة لذلك رغم الفتنة القائمة الآن, ومحاولة بعض الدول أن تكون بديلا عنها وإن ظهرت بدورالداعم سيطيل من أزمتنا فقط, ولا يجعلنا نصل إلي أي نتيجة تذكر. وهذا العقد, الذي انتهت منه سنة, هو مرحلة حاسمة في تاريخنا, فإما أن نعود ولو ببطء إلي دول ثابتة متجذرة, وإما ننتهي إلي دويلات مقسمة تتجزأ كل يوم, في الماضي البعيد أمامنا الأندلس, وفي الحاضر أمامنا الصومالوالعراق والسودان ومأساتنا الأكبر في ليبيا الآن, وفي الغد القريب دول أخري. كاتب وصحفي جزائري لمزيد من مقالات خالد عمر بن ققه