الكاريكاتير شكل من أشكال الفن, صورة شخصية أوبورتريه, فيه يتم تحريف الملامح المميزة لشخص معين, أوتتم المبالغة فيها بطريقة تؤدي إلي حدوث أثر مضحك لدي المتلقي. ويهدف الكاريكاتير-في جوهره إلي نزع القناع عن شخص مألوف لنا أو موقف نستهجنه, فهو يحتوي علي دعابة, وعلي خيال, وعلي مبالغة وعلي تشابه مع عالم الحلم, وعلي عودة إيجابية إلي مجال الطاقات النفسية التلقائية الأولية والحرة والعفوية الخاصة بالأطفال, وعلي بهجةمستعادة, وخصوصا عندما يتحرر الإنسان من قيود الواقع المعيشي, وتفكيره المنطقي شديد الرتابة والتنظيم والتقييد. عرفت الفنان أحمد طوغان علي المستوي الشخصي منذ حوالي ثلاث سنوات, لكني كنت أعرفه كفنان مبدع كبير منذ سنوات عديدة, إنه رسام كاريكاتير مصري بارز ومناضل صاحب مواقف سياسية مشرفة, وكاتب وشاعر وصحفي صدرت له عدة كتب منها:' قضايا الشعوب' و'أيام المجد في وهران' و'قضية فلسطين', يرسم ويكتب ويناضل منذ أكثر من ستين عاما, ويواصل العطاء لا يوقفه شيء عن الرسم أو الكتابة أو المتابعة للأحداث. وطوغان فنان غير منفصل عن واقعه القريب ولا عن عالمه البعيد, فهو يدرك جيدا علاقة التأثر والتأثير التي تقوم بين الداخل والخارج والقريب والبعيد, ولقد جاس دائما خلال هذه العوالم واستقطب من خلالها الصدق, واستقطر الدلالة, وعمق واقعه, وأشار بريشته وقلمه, بتصميماته وشخصياته وتعليقاته إلي قيم الأمانة والوطنية والإخلاص والمقاومة التي تبناها في حياته وأعماله وعبر عنها بشكل متفكه ساخر جميل. تعمل حواس الفنان بطريقة انتقائية, فليس كل ما تتلقاه يصلح مادة للعمل, إنه ينتقي مع ما يتفق مع قيمه ومواقفه في الحياة, يتلقي الأخبار والموضوعات والمثيرات المتنوعة التي يقدمها العالم إليه في كل يوم, بل كل لحظة, ثم يدمج ذلك كله معا, ويعايشه, ويحاول صياغته بشكل إبداعي دال وفريد. هنا مبدع في فن الكاريكاتير, تخزن ذاكرته ملامح الأشخاص وطرائق كلامهم وتعبيرات وجوههم وإشارات أيديهم وأعضائهم الأخري, وكذلك طرائقهم في الحكي والمشي والنظر والتفكير والخداع, وهو يمزج ذلك كله أيضا مع التغيرات التي طرأت علي الواقع والمجتمع والعالم والحياة, ثم إنه يحاول أن ينظم ذلك كله بشكل يتناسب مع إيقاعه الشخصي, فالبعض من الفنانين يرسم بسرعة والآخر ببطء, وهو أمر نجده في الأدب أيضا, فقد كان يوسف إدريس يكتب بسرعة بينما كان نجيب محفوظ يكتب ببطء. ونجده في الموسيقي أيضا, فقد كان موتسارت يؤلف ألحانه الموسيقية بسرعة بينما يؤلفها بيتهوفن ببطء, كذلك يكون حال الرسامين والمبدعين عامة, وليس هناك من إيقاع واحد للإبداع, والمهم النتيجة, المحصلة النهائية, الكثرة قد تكون مهمة, لكن الأكثر أهمية منها الجودة والأصالة, الكيف. هنا لا يقبل الفنان الأمر الراهن ولا يمر مرور الكرام بالأحداث الجسام والأخبار المفجعة أو المفرحة التي تتري إليه ويتوالي حضورها إلي حواسه وعقله. وطوغان في رأيي وقد أكون مخطئا من النوع المتسم بالإيقاع السريع في الرسم, فهو يلاحق الأحداث لحظة بلحظة ويكاد يرسم كل يوم, وربما أكثر من لوحة في اليوم الواحد, وعلي مدي تجاوز الستين عاما, فهو يجسد مسيرة إبداعية خصبة متواصلة جديرة بالإعجاب. وتتفاوت خلفيات اللوحات لدي طوغان فتكون بحارا أو غابات أو أشجارا أحيانا, وتكون في أحيان أخري ساحات حروب ومعارك وطائرات وصواريخ ودبابات وقتلي وجماجم وبارودا, وتكون أيضا سجونا ورموزا لعملات ورقية أو معدنية ولصلبان معقوفة أو نجمات خماسية وأعلام دول ورايات تخفق وبراميل بارود وحيوانات وطيورا وحدائق وحرائق ومقابر, وهكذا فإن خلفيات اعمال طوغان الكاريكاتيرية تلعب دورا محركا للفكرة ومؤكدا عليها ورامزا لها, مثلها في ذلك مثل الشخصيات الرئيسية في الرسم والتي تتنوع بتنوع الموقف كما تتنوع أحجامها وأطوالها كي تشير إلي علاقة السيد بالعبد والسلطة بأتباعها, والمهيمن بالمستكين والمخادع بالمستكين والمفترس بالضحية, هكذا نجد أن تنوع شخصيات طوغان ما بين شخصيات شديدة الطول تكاد تبلغ سقف اللوحة أو عنان السماء وشخصيات ضعيفة صغيرة تكاد لا تري هو نوع من التجسيد لعلاقة السلطة الداخلية أو الخارجية بمن يقعون تحت وطأة قوتها أو بطشها أو تهديدها أو ابتزازها, ويلعب حجم الشخصية الجسدي كذلك, ما بين شخصيات شديدة الضخامة والامتلاء والاكتظاظ الجسدي حد الانفجار وشخصيات أخري ناحلة شاحبة واهنة تكاد أن تختفي من شدة ما تعانيه من جوع أو مرض أو غياب عن التأثير في الحدث, يلعب أيضا دور المفارقة المولدة للضحكة وأحيانا للسخرية والشجن والبكاء علي ما تمتلئ به هذه الحياة من متناقضات ومفارقات تكاد تخرج عن نطاق العقل وقانون الأخلاق وحدود العدل والمساواة. هكذا تعكس الصور البصرية في أعمال طوغان الكاريكاتيرية العالم كله وتعلق عليه وتسخر منه, إنها تعلق عليه بشكل متفكه ساخر ذكي, يثير الضحك, لكنه ضحك كالبكاء. والشخصيات الأنثوية نادرة الحضور في أعمال طوغان, وهي عندما تحضر, فإن ذلك يكون من أجل أن يجسد الفنان من خلالها مواقف ورؤي وقيما سياسية ينتقدها ويحاربها كالضعف والخيانة والخداع والتبعية, مثل هذه المواقف والرؤي والقيم شديدة الحضور في عالم الرجال بشكل يفوق كثيرا حضورها اللحظي العابر أحيانا في أعمال طوغان, وقل الأمر نفسه أحيانا عن الأطفال والطيور والحيوانات, فالكائن الحي المهيمن علي الحدث, لإنه في معظم اللوحات حدث سياسي, هو الرجل, وبكل ما يعنيه عالم الذكورة ويشير إليه, من تسلط وخداع وقسوة وغباء وتمركز حول الذات بمصالحها الخاصة الضيقة وعلي حساب الآخرين, أيا كانوا, في الداخل والخارج أيضا. يقترب طوغان الآن من عيد ميلاده السابع و الثمانين, لكنه لم يزل ممشوق القوام, يمشي ملكا, يواصل العطاء, يضحك, و يكتب, و يرسم, و يسخر, و يتابع ما يحدث في وطنه كشاب في العشرين. كما ان الوعي السياسي لديه, والذي تجسد في ممارسات حياتية وأعمال فنية عديدة, لم يقتصر علي حدود مصر فقط بل امتد واتسع حتي كاد أن يشمل العالم كله. لمزيد من مقالات د.شاكر عبد الحميد