استطاعت مجموعة من الشباب التسلل خلف رجال الأمن, وعندما وصلوا إلي المكان المنشود انحنوا شكرا لله, وقاموا بتقبيل الأرض ظللت أنظر إلي شاشة التليفزيون في اندهاش, فالمكان ليس في باحة المسجد الأقصي ولا المسجد الحرام بل إنه في رابعة العدوية! لقد تحول مفترق رابعة إلي رمز وشعار وعلم وأرض ميعاد تهفو إليها نفوس الإخوان! لذلك عندما اختتم الكاتب الصحفي محمد أبوالفضل مقاله إمارة رابعة الخيالية في10 يوليو الماضي في الأهرام بقوله: أخشي بعد انفضاض مولد المتظاهرين أن تتحول منطقة رابعة إلي رمز أو حائط مبكي جديد لبعض المجذوبين والحالمين بدولة علي الطريقة الإخوانية, رأيت إنها رؤية مستقبلية أثبتت الأيام والأحداث صدقها. حيث نجح الإخوان في تحويل رابعة العدوية من مكان محدود الأبعاد, إلي فكرة تطير فوق كل رءوس الموالين والتابعين وتجعلهم يتخذون منها عقيدة وهدفا, ولخلق هذه الحالة من الاستغراق في الوهم كان أمرا ضروريا إقامة إمارة وهمية, وكان أهم ما فيها المنصة وعدد من الجماهير الموالية أو القابلة للاستيلاب وبث مباشر لهؤلاء القابعين في المنازل, للوصول إلي تلك الحالة, وذلك اعتمادا علي نظرية الإيهام المسرحي. وفي علم المسرح يقصد بالإيهام أنه استغراق المتفرج وتوحده مع ما يعرض عليه فوق خشبة المسرح دون القدرة علي إعمال العقل. وفي منصة رابعة خير مثال, خشبة مسرح وجمهور ذو طبيعة خاصة( قابل للاستيلاب), فلم تكن الخطب السياسية, أو تحليل الواقع أو وصف الديمقراطية هو ما يجذب هؤلاء لاستغلال الحالة الدينية التي تسيطر عليهم, ولقد وضح ذلك جليا في ترديد صيحات التكبير المتتالية والتي كانت المنصة تحرص علي إحيائها من حين لآخر, عندما يصعد أحدهم ليقول( تكبير) فتتعالي الصيحات( والذي يشبه الي حد كبير المسرح الديني في العصور الوسطي), ويظل الجمهور في الهتاف والتكبير وهو في حالة من الانجذاب والتجلي( وهذا ما يسمي في علم المسرح قمة الإيهام الدرامي), فلقد كان الخطباء يتوالون علي المنصة, ويلقون خطابات حماسية ممزوجة بآيات قرآنية وأحاديث نبوية, غلب عليها تكفير المعارضين للإخوان, واتهام الجيش بالخيانة حتي وصل الحال إلي أن تقابل أخبار مقتل الجنود في سيناء بالتهليل والتكبير..! فلقد استطاعوا غسل الأدمغة بأزمة الهوية والدفاع عن الدين والشريعة وكل ماهو إسلامي, ليرسخوا مفهوم الشهادة في سبيل غايتهم, ودولتهم واستغلال الحاجة الروحية لدي البعض والفراغ الفكري, بات المعتصمون مهيئين للدخول في مواجهة مع الأمن أو كل معارض. حالة من الاندماج مع الآخر, وجو يبدو فيه نفحة روحانية, وهذا لم يمنع قليلا من الترفيه كل هذا ارتبط في أذهان المعتصمين والمتابعين له عبر الشاشات, فكانت النتيجة الطبيعية بعد فض الاعتصام أن تتحول أرض رابعة إلي أمل كل من نام علي أرصفتها, وافترش طرقاتها, وحلم بالإمارة أو الشهادة والفردوس, إنها الأرض المقدسة فيها نزل جبريل, وصلي الرسول( صلي الله عليه وسلم) خلف مرسي الإمام, ومن الطبيعي أن يكون توديع ذرات تراب أرضها بالدموع المنسابة من أعماق النفوس, إمارة الأحلام المقدسة وأرض الميعاد, ولما لا وقد أقسم البلتاجي ثلاثا أنها أطهر مكان في الأرض, يتشارك في هذه العقيدة أساتذة الجامعة مع عمال التراحيل, وهو كل ما كانت تطمح إليه الجماعة عندما وضعت أقدامها عند إشارة رابعة. وعندما تم فض الاعتصام, كان من الضروري استثمار هذه الحالة والابقاء عليها أطول فترة ممكنة, فكان أن اتخذوا منها شعارا وعلما ورمزا حتي لا تفقد الجماعة جمهور المنصة. وأصبحت العودة حلما وأملا في حد ذاتها, حتي إن البعض لم يعد يري أهمية لعودة مرسي إذا ما عادوا إلي رابعة. ما يدهشني حقا أن تصبح رابعة شعارا ورمزا لجماعة عمرها ثمانون عاما! فهل كانت بلا رمز أو شعار قبل ذلك؟ كان هذا ردا علي سؤال أستاذي الذي هاتفني بعد مقالي عن الهوية المصرية والهوية الإسلامية في الأهرام أيضا, وهو غاضب أو معاتب علي تأييدي ثورة30 يونيو التي وصفها أنها انقلاب علي الشرعية, ثم ختم كلامه متسائلا, هل كان من الضروري فض الاعتصام واسالة كل هذه الدماء ؟ نعم أستاذي كان من الضروري, بالرغم من أنني أرفض كل الدماء التي سالت من الطرفين لكن إعلم أن الفتنة أشد من القتل, ولقد كانت منصة رابعة مركزا الإثارة الفتنة, ولو تركت لكان الإخوان قد أقاموا كعبة يحج إليها بعض المجذوبين والحالمين والمغيبين.. أنا لا ترضيني بالطبع الفتنة, فهل يرضيك أنت الدم الذي سال ومازال يسيل في سيناء وفي قري الصعيد, هل يرضيك اغتيال جنود وضباط ليس لهم قضية أو عقيدة يؤمنون بها إلا عقيدة حمايتك والدفاع عنك, لايسعون لبناء دولتهم, بل يسعون لحماية دولتنا, ليس لهم حلم في البحث عن وطن بل يحلمون بتأمين الوطن والحفاظ عليه, ثم ماذا بعد كل هذه الدماء وكل هذا العنف تجاه الآخر وإفساد الأعياد وتعطيل الحياة, ماذا تنتظر الجماعة في مواجهتها للشعب, هل تنتظرون عودة حكمكم وشريعتكم, هل حقا تصدقون أن هؤلاء الجالسين في منازلهم تاركين لكم الشوارع سوف يسمحون لكم بالعودة؟ ليعلم كل من يعيش في وهم العودة, أن من نزل يوم30 يونيو لايمثل سوي ربع من ينتظرون إشارة النزول إذا تماديتم فلا تراهنون علي صبرنا. لمزيد من مقالات د. بثينة عبد الرؤوف رمضان