من قال أن الثورات لا تحتاج إلي تخطيط إستراتيجي ومهارات دبلوماسية تساعدها علي تسويق وجهة نظرها, تماما وفق معادلة البائع والزبون, مادام مطلوب من هذا الزبون التفاعل مع المنتج المعروض أمامه, عبر تشكيل رأي عام يضغط علي صانع القرار باتجاهات معينة, خاصة وأن هذا الطرف المستهدف يعاني من حالة إغراق في العروض التي تقدم له من جهة, و يتمتع بعقلية انتخابية تفضيلية مدربة؟ لنعترف بصراحة, لم تعد الصيغة القديمة للثورة صالحة للعمل الخارجي, ولم يعد لديها القدرة علي تحقيق اختراقات نوعية في الوعي والضمير العالمي, واستمرار الرهان علي البعد الملحمي للأزمة السورية صار نوعا من التكرار الممل. لننتهي من هذه المسألة التي أسقطها رفض الرأي العام الغربي للحرب علي النظام, فهل من شك بعدها؟ وثمة أسباب كثيرة تقف وراء هذا التطور, لعل أهم ما يخص أداء الثورة منها, هو الرهان علي يقينات تجاوزها الإدراك السياسي الغربي, بفعل التغيرات الطارئة في الواقع الاجتماعي, وما نتج عنها من بزوغ نزعات انعزالية جديدة. وبالتالي إعادة تعريف سياسي اجتماعي جديد لمنطق التدخل يقوم علي فكرة التدخل في بناء الامة المقصود الوضع الداخلي وهو ما برز بشكل واضح في سجالات الساسة الأمريكيين مؤخرا. والسبب الآخر, إصرار المعارضة علي مقاربات حسابية خاطئة وتأطيرها ضمن مقولات جامدة ثبت أن السياسة الدولية قادرة علي استيعابها وتجاوزها, مثل أن الأزمة ستهدد عاجلا أم أجلا المصالح الأمريكية والغربية عموما في المنطقة مما سيدفع بهؤلاء إلي التدخل, والاكتفاء بذلك بدل بلورة إستراتيجية تؤلف بين الأهداف السياسية بعيدة المدي والأهداف الانية المتمثلة بالحصول علي الدعم السياسي والتقني اللازم, فقد ثبت أن تحقيق هذه المعادلة يتطلب قدرة موازية علي تحريك دائم للمعطيات تتناسب وطبيعة التوجهات الدولية الراهنة. ثمة مسألة أخري تتمثل بعدم الاعتراف بقدرة الطرف الآخر علي مصادرة البعد الإنساني للحدث عبر استثماره لبعض الأخطاء التي ترسخت في بنية الثورة وسلوكها, فقط استطاع الطرف الآخر تحوير الحدث في الدوائر العالمية المؤثرة لمصلحته بمهارة واضحة, في حين ظل خطاب الثورة يسعي إلي التوفيق بين التحليل الوصفي للأحداث ودراسات الاستغراب غير الممنهجة والناضجة, منطلقا من فرضية أن أبواق النظام غير كفؤة لاتباع تقنيات هذا النمط من المقاربات! حسنا, لا يبدو مفيدا الاستغراق كثيرا في تحليل أداء وسلوك الثورة والناطقين بها, فيما يتشكل في سياق الحدث السوري مسار دبلوماسي ينطلق بتوافق دولي, والمطلوب إعطاء هذا المسار فرصته الكافية. وعليه يصبح السؤال الملح: كيف يمكن الاستفادة من هذا السياق؟ يستدعي المنطق السياسي التعاطي العقلاني والواقعي مع هذه النافذة الدولية المتاحة, وإعادة رسم المناظرة الثورية من جديد, فمن يقول أن إظهار الثورة بمظهر المتطرف وغير القادر علي الفعل السياسي هو أمر لمصلحتها ولا يضر بها؟, ألا تستدعي التغيرات الجديدة معايير جديدة للتعاطي؟, وهل ممكن معها تكرار التكتيكات القديمة التي ثبت فشلها؟.أليست الاستفادة من المتاح أيضا عملا ثوريا؟ تحتاج المعارضة في هذه المرحلة إلي نمط من التفكير المبدع لدي قياداتها يسمح لها بتحديد منطقة وسطي بين الدبلوماسية والثورة, بمعني أن تمتلك المرونة والمبادرة الثورية, بحيث تستطيع توظيف المكاسب الميدانية في الحقل الدبلوماسي الدولي, وذلك بلا شك عمل يتطلب بلورة الموارد الثورية وضبط مخرجات الثورة في إطار أهداف وسياسات عقلانية ومنطقية. نعم, تحتاج الثورات إلي عملية تسويق, وهذا الأمر يتطلب إجراءات شكلية من قبيل التوضيب والتغليف الجيد ليصار إلي تقديمها بأحسن صورة لعالم ثبت أنه ينبهر بالصورة, وكذا إجراءات في تحسين نوعية المنتج عبر إظهار درجة تبادلية قيمه وتوافقها مع المعيار العالمي السائد. لسنا وحدنا في عالم باتت قضاياه متعددة ومعقدة ومتشابكة. لمزيد من مقالات غازى دحمان