تقول الوقائع الجارية إن المرحلة الثورية في العلاقات الدولية, وحقبة التعاطي مع حدث الربيع العربي, والسوري, تحديدا, بوصفه متغيرا ثوريا سيجري البناء عليه في نسق العلاقات الدولية انتهت, تحت واقعة اختلاف حسابات الواقع مع حسابات المصالح المتغيرة والمتجددة في عالم ينوء هو نفسه تحت ثقل متغيرات لا تمنحه رفاهية الانتظار وتشي التفاهمات والترتيبات الجارية بين الولاياتالمتحدةالأمريكيةوروسيا بان الطرفين قد أنجزا الإطار النظري لصيغة التفاهم التي رست عليها مداولاتهما العلنية والسرية, وجري تحديد نقاط الاتفاق والقواسم المشتركة, وخرائط النفوذ وحدود وتخوم التلاقي والافتراق, كما جري الاتفاق علي مناطق المبادلة, ومناطق الإدارة المشتركة, والمناطق الخاصة أو ذات النفوذ الحصري. علي ذلك, تبدو جنيف2 فاتحة عهد عالمي جديد أو منبر للولوج لهذا العالم, ليس علي حساب سورية والمنطقة وحسب, علي ما يعتقد الكثيرون, بل حتي أن ثمة قوي كبيرة ووازنة أدركتها الفرصة ووجدت نفسها خارج أطر الإنفاق الأمريكي الروسي, منظومة البريكس التي أنشأتها موسكو علي عجل لتقوية موقفها التفاوضي, وأوروبا القارة العجوز التي تلطت واشنطن خلفها طوال الأزمة, فالاتفاق, علي الأقل في مراحله الأولي لا يتسع سوي للأمريكيين والروس, ولعل هذا ما يفسر النزق الأوروبي, ومحاولة استعجاله إرباك الترتيبات الأمريكية- الروسية, عبر إعلان رفع قرار حظر التسلح عن المعارضة السورية. جنيف2, هو بمثابة يالطا الجديدة, بموجبها سيتم إعادة صياغة الإستراتيجية العالمية, وتحديدا منها مسار وتوجهات الإستراتيجية الأمريكية في المرحلة المنظورة المقبلة, بمساعدة روسية بوصفها قوي ثانية يمكن تحميلها جزءا من تنفيذ هذه الإستراتيجية, ما يذكرنا بالدور الياباني والكوري الجنوبي في عقب الحرب العالمية الثانية وتحويلهما إلي أحد عناصر الاقتصاد الأمريكي وتوسعته عاموديا باتجاه أسواق أسيا. إن أي محاولة لفهم التوجهات الأمريكية في المرحلة المقبلة وأدوارها المحتملة, لا بد ان ينطلق من معطيين باتا يعبران عن نفسيهما بجلاء في الخطاب السياسي الأمريكي, وهما وصول أمريكا إلي حالة من الاكتفاء النفطي وتخلصها, أخيرا, مما كان يطلق عليه سياسيوها إستعباد النفط وبالتالي فإن النفط ومناطق إنتاجه باتا خارج خطوط إستراتيجياتها. في مقابل ذلك, ثمة نزوع أمريكي شديد للخروج من الأزمة الاقتصادية والمالية التي تهدد وضع أميركا العالمي وموقعها, وهذا الخروج يتطلب ليس فقط البحث عن خطوط صادرات جديدة, وإنما أيضا التفرغ للقوة الصينية الناعمة التي تشكل الخطر الأكبر علي متابعة مسار التفوق والحلم الأمريكي. القضية إذن, لا تخرج عن كونها ترتيبات أمريكية خرجت من دون ضجيج, إستراتيجية أمريكية هادئة, تبلورت علي ضوء دراسة هواجس القوي المختلفة والفرص والمخاطر التي يتيحها الظرف الدولي الحالي, مع مزاوجة الإمكانات المتاحة لتطبيق هذا النمط الإستراتيجي, الفرق بين أمريكا والقوي الأخري أن الأزمة السورية هددت مصالح هذه الأخيرة بطريقة أو أخري, وجميع هذه القوي, روسيا وأوروبا, اشتغلت تحت وقع تهديد تداعيات الأزمة علي أوضاعها ودواخلها ولم تملك رفاه التنقل بين خيارات متعددة, وبناء عليه فإن استجابات أغلب الأطراف صدرت عن توتر مشوب بنزق الخوف من التداعيات. لقد قرأت روسيا الحدث السوري من زاوية مصلحية مباشرة, تنطلق من رؤيتها لأمنها الاقتصادي القائم علي بيع الغاز لأوروبا وبيع السلاح للنظام السوري, وروسيا لم تحقق المكاسب التي جري الحديث عنها, سورية كانت ملعبها, والتفاوض جري علي ملعبها ومن كيسها, وهي في النهاية تكسب أرضا( خراب) وذات قيمة إستراتيجية تعادل الصفر, فقط روسيا تعتقد أنها بتشبثها بنظام الأسد تمنع تحول المواني السورية إلي معبر للغاز المنافس لغازها, وهي تعتقد أنها, وبمساعدة إيران سدت هذا الاحتمال حتي من العراق والأردن, لكن مقابل ذلك سيطلب منها الكثير من الإجراءات, وللحفاظ علي الجرح الإستراتيجي السوري ستنزف روسيا كثيرا في سبيل إغلاق هذه الكوة المفتوحة علي مختلف الاحتمالات, باختصار روسيا تحمي مصادر عيشها المهددة بطريقة أو أخري ولا تتقدم أو تتمدد, وهي تحمي تخومها الإسلامية في أنغوشيا واوسيتا, وهي في كل الحالات طرف مدافع والمدافع لا يملك أكثر من التكتيكات.ربما يبدو نتيجة صادمة هذا المآل الذي يتكشف عنه الحدث السوري, إذ قياسا بحجم وطبيعة انخراط بقية الأطراف, كانت الولاياتالمتحدة أقلها, ويبدو أن إستراتيجيتها الحذرة كانت أكثر جدوي في خدمة مصالحها. حيث أغرقت كلا من روسياوإيران في أزمة لن تكون النجاة منها سهلة, وهاهي تدفع أوروبا, إذا ما طبقت قرارها بتزويد الثوار بالسلاح, إلي حرب بالوكالة مع روسياوإيران, ما يعني مزيدا من الاستنزاف في الساحة السورية. هل يعني ذلك أن الأمور استقرت علي هذه الشاكلة؟, أمريكا تريد حراسا علي مصالحها وهي تشغل الروس, الخطر النووي الإيراني يهدد الروس أكثر بكثير من تهديده لأمريكا, ولن تستطيع واشنطن معالجته بغير تحفيز الهواجس الروسية تجاهه, وخطر المتطرفين بات يدق أبواب موسكو, عدته صارت جاهزة في الجبال الخلفية لموسكو, مهمة روسيا شاقة في الشرق, وتباشير الصعود التي لاحت لبعض قصيري النظر في الكرملين ليست سوي علامات الانحدار, ثمة فوائض مالية كبيرة في خزائن القياصرة أن أوان استهلاكها في زواريب صراعات الشرق العبثية قبل أن يجري توظيفها في مجالات منتجة. لمزيد من مقالات غازى دحمان