«يأتي حاملًا البهجة والأمل».. انتصار السيسي تهنئ الشعب المصري ب«شم النسيم»    جامعة أسيوط تنظيم أول مسابقة للتحكيم الصوري باللغة الإنجليزية على مستوى جامعات الصعيد (AUMT) 2024    تراجع جديد في سعر كرتونة البيض اليوم الاثنين    «الرقابة المالية» تنشر الثقافة المالية في جامعات مصر بندوات توعوية    توريد 58 ألفا و99 طن قمح إلى صوامع وشون القليوبية    الطن يسجل هذا الرقم.. سعر الحديد اليوم الاثنين 6-5-2024 في المصانع المحلية    محافظ المنوفية: 56 مليون جنيه حجم استثمارات مشروعات الخطة الاستثمارية بمركزي شبين الكوم وتلا    استعدادا لحرب محتملة.. روسيا تبدأ في إجراء مناورة بتشكيلات صاروخية    «أونروا»: سنحافظ على وجودنا في رفح الفلسطينية لأطول فترة ممكنة    بمناسبة عيد ميلاده.. كوريا الشمالية تدعم الزعيم كيم جونج أون بقسم الولاء    موعد مباراة باريس سان جيرمان وبوروسيا دورتموند في دوري أبطال أوروبا.. المعلق والقنوات الناقلة    على معلول طرف.. أزمة في الأهلي قبل مواجهة الترجي    منتخب شابات اليد يستعد لبطولة العالم من بورسعيد    «الأرصاد»: أجواء ربعية معتدلة نهارا في معظم الأنحاء (فيديو)    إيرادات السرب تقترب من حاجز ال15 مليون جنيه بعد 5 أيام في دور العرض    4 أفلام تحقق أكثر من 7.5 مليون جنيه في دور العرض خلال 24 ساعة    وسيم السيسي: قصة انشقاق البحر الأحمر المنسوبة لسيدنا موسى غير صحيحة    استشاري تغذية توجّه نصائح لتفادي خطر الأسماك المملحة    في شم النسيم.. هيئة الدواء توجه 7 نصائح ضرورية عند تناول الفسيخ والرنجة    قبل أولمبياد باريس.. زياد السيسي يتوج بذهبية الجائزة الكبرى ل السلاح    طلاب مدرسة «ابدأ» للذكاء الاصطناعي يرون تجاربهم الناجحة    التعليم تختتم بطولة الجمهورية للمدارس للألعاب الجماعية    محافظ المنوفية يعلن جاهزية المراكز التكنولوجية لبدء تلقى طلبات التصالح غدا الثلاثاء    الاتحاد الأوروبي يعتزم إنهاء إجراءاته ضد بولندا منذ عام 2017    ماجدة الصباحي.. نالت التحية العسكرية بسبب دور «جميلة»    بالفيديو.. مدير متحف الآثار بمكتبة الإسكندرية: شم النسيم عيد مصري بعادات وتقاليد متوارثة منذ آلاف السنين    وفاة شقيق الفنان الراحل محمود ياسين.. ورانيا ياسين تنعيه: مع السلامة عمي الغالي    التعليم العالي: تحديث النظام الإلكتروني لترقية أعضاء هيئة التدريس    كشف ملابسات مقتل عامل بأحد المطاعم في مدينة نصر    «المستشفيات التعليمية» تناقش أحدث أساليب زراعة الكلى بالمؤتمر السنوى لمعهد الكلى    استشاري تغذية ينصح بتناول الفسيخ والرنجة لهذه الأسباب    مفاجأة عاجلة.. الأهلي يتفق مع النجم التونسي على الرحيل بنهاية الموسم الجاري    إزالة 9 حالات تعد على الأراضي الزراعية بمركز سمسطا في بني سويف    فشل في حمايتنا.. متظاهر يطالب باستقالة نتنياهو خلال مراسم إكليل المحرقة| فيديو    مقتل 6 أشخاص في هجوم بطائرة مسيرة أوكرانية على منطقة بيلجورود الروسية    فنان العرب في أزمة.. قصة إصابة محمد عبده بمرض السرطان وتلقيه العلاج بفرنسا    موعد عيد الأضحى لعام 2024: تحديدات الفلك والأهمية الدينية    إصابة أب ونجله في مشاجرة بالشرقية    اتحاد القبائل العربية يحذر من خطورة اجتياح رفح ويطالب مجلس الأمن بالتدخل لوضع حد لهذا العدوان    لاعب نهضة بركان: حظوظنا متساوية مع الزمالك.. ولا يجب الاستهانة به    تعرف على أسعار البيض اليوم الاثنين بشم النسيم (موقع رسمي)    ولو بكلمة أو نظرة.. الإفتاء: السخرية من الغير والإيذاء محرّم شرعًا    إصابة 7 أشخاص في تصادم سيارتين بأسيوط    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاثنين 6-5-2024    قصر في الجنة لمن واظب على النوافل.. اعرف شروط الحصول على هذا الجزاء العظيم    هل يجوز قراءة القرآن وترديد الأذكار وأنا نائم أو متكئ    طقس إيداع الخميرة المقدسة للميرون الجديد بدير الأنبا بيشوي |صور    أول تعليق من الأزهر على تشكيل مؤسسة تكوين الفكر العربي    مفاضلة بين زيزو وعاشور وعبد المنعم.. من ينضم في القائمة النهائية للأولمبياد من الثلاثي؟    الدخول ب5 جنيه.. استعدادات حديقة الأسماك لاستقبال المواطنين في يوم شم النسيم    محمد هاني يعود إلى تشكيلة الأهلي أمام الاتحاد السكندري    وزيرة الهجرة: نستعد لإطلاق صندوق الطوارئ للمصريين بالخارج    دقة 50 ميجابيكسل.. فيفو تطلق هاتفها الذكي iQOO Z9 Turbo الجديد    البحوث الفلكية تكشف موعد غرة شهر ذي القعدة    طبيب يكشف عن العادات الضارة أثناء الاحتفال بشم النسيم    تعاون مثمر في مجال المياه الإثنين بين مصر والسودان    استشهاد طفلان وسيدتان جراء قصف إسرائيلي استهدف منزلًا في حي الجنينة شرق رفح    الجمهور يغني أغنية "عمري معاك" مع أنغام خلال حفلها بدبي (صور)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حرب باردة جديدة.. بين روسيا والغرب
نشر في محيط يوم 01 - 09 - 2008

حرب باردة جديدة.. بين روسيا والغرب
بقلم : موسى راغب

حين تناقلت وكالات الأنباء خبر قيام جورجيا في السابع من يوليو 2008 بالاجتياح الطارئ لأوسيتيا الجنوبية وفرض سيطرتها على العاصمة "تسخينفالي" ، تداعى للذاكرة اجتياح الاتحاد السوفييتي للعاصمة التشيكية عام 67 وإسقاط رئيسها دوبتشيك، واجتياحه أيضاً للمجر عام 56.
ويعود هذا التداعي – على ما يبدو – إلى أن توقيت وقوع هذين الاجتياحين، جاء متلازماً مع وقوع حدثين يعتبران أكثر خطورة وإرباكاً للعلاقات بين القوى العظمى في العالم وهما: العدوان الثلاثي الذي شنته بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على مصر عام 56 بسبب تأميم قناة السويس، والحرب العربية الإسرائيلية التي وقعت عام 67 بسبب إغلاق مصر لمضيق ثيران في وجه الملاحة الإسرائيلية في خليج العقبة.
فقد حاول رئيس جورجيا "شاكسفيلي" أن يستغل انشغال العالم بافتتاح دورة الألعاب الأولمبية المبهر في الصين، وصدور إشارات عن الإدارة الأمريكية وإسرائيل بتوجيه ضربة للبرنامج النووي الإيراني، وغياب بوتين عن موسكو الذي كان يحضر افتتاح الدورة الأولمبية في الصين، إضافة للارتفاع المتصاعد في أسعار النفط والمواد الغذائية غير المسبوق في العالم .. نقول: حاول "شاكسفيلي" أن يستغل تلك الأحداث في شن هجوم خاطف على عاصمة أوسيتيا الجنوبية "تسخافنلي" والاستيلاء عليها، ظناً منه أن هذا الهجوم سيمر مر الكرام بسبب انشغال روسيا والعالم بتلك الأحداث، واعتقاداً منه بأن الغرب سيهب لنجدته من الدب الروسي في الوقت المناسب، إذا ما حاول صد الهجوم الجورجي، وإعادة الأوضاع في أوسيتيا الجنوبية لما ما كانت عليه.
غير أن ثمة وجهة نظر أخرى مناقضة، وهي أن روسيا الاتحادية يبدو أنها كانت تتحسَّب لهذا الهجوم، الأمر الذي يؤكده تلك السرعة الخاطفة التي جاء بها الرد العسكري الروسي على الاجتياح الجورجي ورده على أعقابه، ما دعا بعض المحللين السياسيين إلى القول بأن روسيا هي التي استدرجت الرئيس الجورجي للإقدام على مغامرته الفاشلة.
هنا نتساءل: هل رد روسيا على هذا الاجتياح الجورجي، واستخدامها لما وصفه الغرب بالقوة المفرطة في صده، ودخولها للأراضي الجورجية ذاتها، واستيلائها على بعض المدن، كان رداً تلقائيا فرضته متطلبات المواجهة العسكرية؟ أم كان بهدف إرسال تحذير لأمريكا والأوروبيين، بأن انهيار الاتحاد السوفييتي في أوائل العقد الأخير من القرن الماضي، لا ينبغي أن يفهم منه أن تراجع دور روسيا كقوة عظمى (باعتبارها وريثة الإمبراطورية السوفييتية) خلال السنوات التي أعقبت ذلك الانهيار، سوف يستمر حتى يصل إلى الحد الذي تُصنف فيه روسيا بأنها دولة هامشية لا يحسب حسابها على الساحة الدولية أو في محيطها الجيوسياسي.
ويستند القائلون بهذا الرأي على أن ما عانت منه روسيا الاتحادية من مشكلات اقتصادية وسياسية نتيجة تفكك الاتحاد السوفييتي، كان أمراً طبيعياً ومتوقعاً. لكن ليس هناك من الأسباب ما يبرر القول بأن تلك المعاناه، يمكن أن تصل إلى حد وصف روسيا (الوريث الشرعي للدولة السوفييتية)، بالقوة الهامشية، ولو من الناحية العسكرية على الأقل. فهي ما زالت تمتلك أسلحة نووية تكفي لتدمير العالم كله عدة مرات.
زد على ذلك أن روسيا تمتلك مساحات شاسعة من الأراضي التي تتنوع في تضاريسها وطبوغرافيتها، ما ينعكس بالتالي على تنوع مواردها الطبيعية وضخامة تلك الموارد كالنفط والغاز الطبيعي والمحاصيل الزراعية الإستراتيجية، واستغلالها في الصناعات التحويلية. أضف إلى ذلك التقدم العلمي والتكنولوجي الذي ورثته عن الاتحاد السوفييتي، والذي يوفر لروسيا قاعدة صلبة للصناعات الثقيلة والتكنولوجيا المتقدمة، سواء في مجال الصناعات الحربية أو المدنية.
والمشاهد أنها استطاعت خلال السنوات العجاف التي مرت بها بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، أن تحدِّث قدراتها العسكرية والصناعية، وتعيد تأهيل طاقاتها البشرية بما يتفق وتحولها لاقتصاد السوق. وهذا ما مكنها من أن تعيد التوازن لبنيانها كقوة اقتصادية وعسكرية وسياسية لها تأثيرها على الساحة العالمية. ويكفي أن نعلم أنها تحتفظ في جوف أراضيها – بجانب قوتها النووية الضاربة – بنحو ثلت المخزون العالمي المحقق من النفط، إضافة إلى أن الدول الأوروبية التي تنتمي للناتو والاتحاد الأوروبي تعتمد إلى حد لا يستهان به على النفط والغاز الطبيعي الروسي.
بداية الأزمة ومراحل تطورها
في السابع من أغسطس 2008 قام الجيش الجورجي بهجوم خاطف على عاصمة أوسيتيا الجنوبية "تسخافنلي" واستولى عليها، ما أدى لمقتل أكثر من ألف وخمسمائة مدني وهروب عشرات الآلاف منها، إضافة لمقتل عشرة جنود من قوات السلام الروسية المرابطة في المدينة وجرح عشرات آخرين، بحسب الرواية الروسية. وعلى الفور تدفقت أرتال من الدبابات والعربات المدرعة الروسية نحو العاصمة، وتمكنت بدورها من طرد القوات الجورجية من العاصمة "تسخافنلي" ومن المواقع الأخرى التي احتلتها في أوسيتيا بسرعة خاطفة.
ولم تكتف موسكو بذلك، بل أمرت قواتها بدخول الأراضي الجورجية بهدف تدمير قدرات الجيش الجورجي القتالية، والتي شملت مواقعه والأسلحة التي أمدته بها أمريكا وإسرائيل ودول أوروبا خلال السنوات العشر الماضية. كما استمر اجتياحها للأراضي الجورجية حتى أصبحت ترابط على بعد ثلاثين كيلومتراً من العاصمة "تبليسي"، بعد أن استولت على مدينة جوري الإستراتيجية التي تفصل شرق جورجيا عن غربها، كما سيطرت على مرفأ "بوتي" المطل على البحر الأسود، ما مكَّن القوات الروسية من المرابطة على بعد ثلاثين كيلومتراً من العاصمة الجورجية.
لكن ما يوازي تلك الأحداث أهمية، تلك التساؤلات التي شغلت ولا تزال تشغل بال المراقبين والمحللين السياسيين، من أبرزها:
لِمَ كان هذا الرد الروسي الخاطف والعنيف والحاسم ضد القوات الجورجية التي هاجمت أوسيتيا الجنوبية؟، هل كان لمجرد الحفاظ على حياة المواطنين الروس وقوات حفظ السلام الروسية المرابطة في العاصمة الأوسيتية "تسخافنلي" كما يدعي الكرملين؟، أم أن وراء الأكمة ما وراءها؟ وأقل ما يقال في ذلك، وجود مخطط روسي "معد سلفاً" يستهدف استعادة دور روسيا كقوة كبرى في العالم كما كان الحال أيام الاتحاد السوفييتي قبل انهياره؟، وهل هذا يعني أن ظهور حرب باردة جديدة بين روسيا والغرب يمكن أن يكون أمراً حتمياً؟.
الواقع أنه ليس بالإمكان استبعاد أي من هذه الاحتمالات، ذلك أن التصعيد الذي تلا الرد العسكري الروسي على الهجوم الجورجي من كلا الجانبين (نعني روسيا والغرب)، كان وما زال يتم في إطار جس النبض بالنسبة لكليهما، برغم إدراكهما للتغيرات الجذرية التي سوف تطرأ على العلاقات بينهما مستقبلاً نتيجة هذه الحرب.
فأغلب الظن أن روسيا التي كانت تمثل قطب الرحى بالنسبة للاتحاد السوفييتي والوريث الشرعي له، بدأت تشعر بأن أمريكا لم تكتف بمحاولة إقامة نظام عالمي جديد أحادي القطب تتزعمه وتنفرد في اتخاذ القرارات الهامة بالشأن العالمي .. ولم تكتف بتحييد روسيا وإبعادها كقوة مؤثرة عن الساحة الدولية .. ولم تكتف بضم دول أوروبا الشرقية التي كانت يوما تدور في فلك الاتحاد السوفييتي لحلف الناتو .. وإنما حاولت السيطرة على الجمهوريات الآسيوية التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفييتي ذاته، مثل أوكرانيا وأوزباكستان وطاجكستان وقرقيزيا إلى جانب جورجيا وأوكرانيا ومولدافيا وغيرها.
ولا يخفى على المراقبين أن هدف أمريكا ودول أوروبا من ذلك كله، إقامة حزام غربي حول تخوم روسيا بهدف إحكام الطوق عليها، ومنعها من استعادة دورها كقوة عالمية تتمتع بالندية في التعامل مع الولايات المتحدة، التي تحاول - منذ انهيار الاتحاد السوفييتي - فرض نفسها كزعيمة لنظام عالمي أحادي القطب.
غير أن أهداف هذا التحرك الغربي لا يمثل جلِّ السياسة الغربية في قارة آسيا. فهناك قوة آسيوية أخرى غير روسيا، تمثل تهديداً على المدى المتوسط على الأقل، بالنسبة لطموحات أمريكا ودول أوروبا في السيطرة على العالم، أو بالأحرى على احتياطي النفط العالمي الذي يمثل عصب الاقتصاد، ونعني بها الصين.
فمن المعروف أن الجزء الأعظم من احتياطي النفط العالمي يقبع في هذه القارة، وبخاصة في دول الخليج وبحر قزوين، إضافة للنفط الروسي الذي يقال بأنه يصل إلى ثلث احتياط النفط العالمي. وحيال هذا الواقع فإن الشق الثاني من استراتيجية أمريكا والغرب بالنسبة لآسيا، يتمثل في ضرورة تصديه لاحتمال تسلل الصين لدول آسيا الوسطى بهدف الاستيلاء على نفط بحر قزوين، الذي بات يعد الآن هدفاً رئيساً لأمريكا. فما اجتياح أمريكا لأفغانستان بدعوى محاربة ما تسميه واشنطن بالإرهاب، ليس سوى غطاء لأغراضها الحقيقية في منع تسلل التنين الأصفر لتلك الدول، تماما مثل محاولاتها تقزيم دور روسيا في محيطها الجيوسياسي بما في ذلك وجودها في شواطئ بحر قزوين.
ويبدو أن قادة الكرملين كانوا يتحسَّبون لمثل هذه المخططات جيداً، حيث حذروا جورجيا وأوكرانيا أكثر من مرة من مغبة الانضمام لحلف الناتو، كما يبدو أنها كانت على علم بمحاولات جورجيا بالذات بناء جيشها وتدريب عناصره بحيث يصبح قادراً على بسط سيطرته على مقاطعتي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا بالقوة، إضافة على مواجهة روسيا عسكريا إذا ما تطلب الأمر ذلك. وكانت روسيا تدرك أن محاولة جورجيا بناء جيشها تلقى تشجيعاً ودعما من أمريكا والدول الأوروبية للأسباب التي ذكرنا.
النزاع يطال إقليم أبخازيا

ولم تقتصر مخططات جورجيا على استعادة أوسيتيا الجنوبية لحاضرتها، وإنما تعدت ذلك لتشمل إقليم أبخازيا الذي كان قد أعلن استقلاله عن جورجيا. لذلك رأينا النزاع يمتد ليشمل هذا الإقليم، برغم أنه لم يحظ حتى اللحظة باعتراف المجتمع الدولي، بما في ذلك روسيا ذاتها. فقد طال القصف وادي "قودوري الأعلى" الذي كانت جورجيا قد استولت عليه في العام الماضي برغم وجود اتفاقية تحظر على الجورجيين فعل ذلك. كما تزايدت الحشود العسكرية الروسية والأبخازية في المنطقة الأمنية التي تفصل الإقليم عن جورجيا، والتي ترابط فيها قوات حفظ السلام الروسية وفريق المراقبة التابع للهيئة الأممية. وقد ترددت الأنباء مؤخراً عن قيام عدة آلاف من الأبخاز بمظاهرة تطالب باعتراف روسيا الاتحادية بها وانضمامها إليها، الأمر الذي تحقق باعتراف الكرملين باستقلال هذا الإقليم وإقليم أوسيتيا الجنوبية.
دخول "أوكرانيا" على الخط
ويبدو أن أمريكا ما زالت مصممة على فرض الطوق حول روسيا بهدف تحجيم دورها في المنطقة والعالم، حيث أوعزت – على ما يبدو - لأوكرانيا لدخول حلبة الصراع. فقد تحدثت كييف عن إمكان منع السفن الحربية الروسية التي تفرض حصاراً على سواحل جورجيا المطلة على البحر الأسود، من العودة لقواعدها في "القرم". لكن الرد الروسي جاء سريعاً، وبما يوحي بأن كييف قد تلقى رداً حاسماً على تهديدها. فقد صرح نائب رئيس أركان الجيش الروسي بأن مثل هذه التهديدات تحتاج للتحليل قبل أن تتخذ موسكو موقفاً حاسماً بشأنها.
ردود الفعل الأوروبية
وفيما يبدو انه جزء من سيناريو الحرب الذي أعده حلف الناتو بالتنسيق مع جورجيا، هبت العواصم الغربية بإرسال مبعوثين على أعلى مستوى لجورجيا وموسكو، بغية إيقاف توغل الجيش الروسي في الأراضي الجورجية. فقد سارع الرئيس الفرنسي "نيكولا ساركوزي" لزيارة كل من "تبليسي" و "موسكو" في مهمة وساطة عاجلة تستهدف وقف تدهور الموقف في جورجيا.
وقد جاءت زيارته بعد أن تيقن الغرب من فشل القوات الجورجية في استعادة أوسيتيا الجنوبية لحاضرتها، إضافة لإعلان الكرملين عزمه إرسال نحو تسعة آلاف مظلي لإقليم أبخازيا ونشر 350 عربة مدرعة فيه بحسب وكالة "انترفاكس" الروسية. وفي تبرير للموقف الغربي من الأزمة حاولت وكالات الأنباء الغربية تحميل مسئولية الحرب على عاتق الرئيس الجورجي، حيث أوحت بأنه ارتكب خطأ كبيرا في تقدير موقف روسيا الاتحادية من الهجوم المفاجئ الذي شنه على أوسيتيا الجنوبية.
التحضير لهذه الحرب كان يجري منذ سنتين
غير أن مصادر روسية وأخرى غربية تميل للاعتقاد بأن جورجيا كانت تحضر لهذا الهجوم منذ سنتين بالتنسيق مع إسرائيل على الأقل، حيث زودتها بمعدات عسكرية ذات تقنية عالية ضد الصواريخ والطائرات، كما زودتها بطائرات بدون طيار، وبخبراء عسكريين لتدريب الجيش الجورجي وزيادة قدراته القتالية. وقد ذهب الرئيس الجورجي في وصفه للتعاون القائم بين جورجيا وإسرائيل إلى حد القول، بأن الوجود الإسرائيلي في جورجيا كان دوما حاضراً سواء في وقت السلم أو الحرب.
وأغلب الظن أن مساعدات إسرائيل العسكرية لجورجيا تمت بالتنسيق مع واشنطن إن لم يكن بتوجيه منها، وبمباركة من حلف الناتو أيضاً. فمن غير المتوقع – في نظر المراقبين - أن يتخذ الرئيس الجورجي قرار الحرب على أوسيتيا الجنوبية، دون الرجوع لأمريكا وحلف الناتو الذي يحاول الانضمام إليه.
ويفسر البعض العلاقة بين جورجيا وإسرائيل، بأنها تقوم على اساس تجاري بحت، حيث يرون إن إسرائيل تمثل مصدراً من المصادر التي تعتمد عليها جورجيا في شراء السلاح المتطور الذي يحتاجه جيشها. غير أن فريقاً من المحللين السياسيين يرون أن العلاقة بين البلدين هي أبعد من ذلك بكثير. فمن المعروف أن هناك جالية كبيرة من الجورجيين اليهود يعيشون في إسرائيل .. وقد أقاموا علاقات مع الشركات المنتجة للسلاح فيها، وأصبحوا بمثابة مصدر موثوق به لتزويد جورجيا بالسلاح المتطور، وعاملا فاعلا في توطيد العلاقة بين البلدين.
ويبدو أن إسرائيل كانت تخطط من وراء ذلك، لاستخدام أراضي جورجيا كنقطة انطلاق للطيران الحربي الإسرائيلي لضرب المنشات النووية الإيرانية، بدلاً من مرور الطائرات في أجواء العراق الذي تسيطر عليه إيران، بحسب المصادر الإسرائيلية. هذا بالإضافة إلى خططها التي تستهدف ممارسة الضغط على روسيا للحد من تطوير علاقاتها العسكرية مع إيران وسوريا وبخاصة في المجالين الصاروخي والنووي.
الموقف الأمريكي من الحرب
وبخلاف كل ما قيل ويقال عن أن جورجيا كانت تأمل من أمريكا وحلف الناتو التدخل في تلك الحرب، فقد أوضحت التصريحات التي صدرت عن المسئولين الأمريكيين، بأن أمريكا وحلف الناتو ينأيان بنفسيهما عن الدخول في صراع مسلح مع روسيا الاتحادية بسبب هذه الحرب.
فعلى الرغم من تنديد الرئيس الأمريكي بها وإعلان دعمه المعنوي لموقف جورجيا، وبرغم تشديد نائبه "ديج شيني" على معارضة ما أسماه بالعدوان الروسي على تبليسي، وقوله بأن هذا العدوان (لن يمر دون رد)، وإن استمراره ينطوي على عواقب وخيمة بالنسبة للعلاقات القائمة بين الولايات المتحدة الأمريكية والغرب من ناحية، وروسيا من ناحية أخرى .. برغم ذلك كله، فإن احتمال تدخل أمريكا وحلف الناتو عسكرياً لصالح جورجيا ضد روسيا، يعتبر غير وارد بالمرة في الوقت الحاضر على الأقل. فقد شدد وزير الدفاع الأمريكي "روبرت جيتس" على استبعاد التدخل عسكرياً في جورجيا، واقتصر على القول بإمكان تأثر العلاقات الأمريكية الروسية سلباً إذا ما استمر العدوان الروسي على جورجيا.
لكن هذا لا يعني تخلي أمريكا والناتو عن جورجيا في جوانب أخرى من هذه الأزمة، كما أن هذا التدخل لن يكون من أجل الدفاع عن جورجيا بالدرجة الأولى، وإنما يجري وفق مخطط استراتيجي غربي يرمي إلى تحجيم دور روسيا في محيطها الجيوسياسي أولاً، والحد من قدرتها على التأثير في السياسة الدولية ثانياً، وعدم السماح بتضخم هذه القدرة لتصل إلى الحد الذي كانت عليه أيام الاتحاد السوفييتي قبل تفكيكه ثالثاً.
وهذا لن يتحقق إلا بجر روسيا إلى سباق للتسلح، تستهدف أمريكا وأوروبا من ورائه استنزاف موارد روسيا الاقتصادية، الأمر الذي يرى بعض المحللين السياسيين أنه قد يتحقق، إذا لم يتوخ الكرملين الحذر من الفخ الذي تنصبه له أمريكا جراء الحرب الجورجية.
فأغلب الظن أن ما جرى حتى الآن يمثل المرحلة الأولى من هذا السيناريو .. بمعنى أن الرئيس الجورجي قد أدى الدور الذي رُسِمَ له في هذه المرحلة، وهو دفع الروس للوصول إلى النقطة التي يفقدون معها صبرهم، على أمل دفعهم للكشف عن المزيد من خططهم الرامية لاستعادة الدور الذي فقدوه على الساحة الدولية بعد الاتحاد السوفييتي من ناحية، واستدراج روسيا للدخول في سباق تسلح من شأنه أن يستنزف طاقاتها الاقتصادية كما فعلت مع الاتحاد السوفييتي.

أمريكا تقيم قواعد لها في جورجيا
فقد استغلت أمريكا دخول القوات الروسية للأراضي الجورجية، بأن أعلنت عن إرسال طائرة عسكرية تقل مساعدات إنسانية لتبليسي، أعقبتها بالإعلان عن إرسال طائرة أخرى. ثم كشفت مؤخراً عن وصول مدمرتين أمريكيتين لأحد موانئ جورجيا تدعي بأنهما تحملان معونات إنسانية. وهذا يعني أن أمريكا بدأت تستثمر احداث جورجيا في تبرير تواجدها العسكري في موانئ جورجيا والبحر الأسود، تحت غطاء تقديم مساعدات إنسانية بحسب بعض المراقبين.
كما تتردد الأنباء بكثافة عن تحرك أساطيل حلف الناتو في البحر الأسود الذي كان يعد - قبل انهيار الاتحاد السوفييتي - بحيرة روسية، حتى وصل عددها إلى عشرة قطع بحرية بحسب نائب رئيس الأركان الروسي. وهذا يعني أن الحرب الجورجية أوجدت للغرب الذريعة لتواجده العسكري على مقربة من الحدود الروسية، الأمر الذي لا بد أنه قد أثار حفيظة الروس، حيث بدأوا في رصد وتقويم التزايد في حجم القوات العسكرية التابعة لحلف الناتو في البحر الأسود، استعداداً للرد على أي فعل قد يصدر عن تلك القوات ضد المصالح الروسية.

وفي هذا السياق، أدلى مسئول عسكري روسي بتصريح قال فيه: إن الأسطول الروسي في البحر الأسود، شرع باتخاذ إجراءات تكفل مراقبة تحركات قوات الناتو بعد أن تزايد حجم تواجدها فيه مؤخراً.
وإمعاناً من الأمريكيين في استفزاز الدب الروسي، قاموا بالتوقيع مع بولونيا على اتفاق يسمح بنشر وحدات من الدرع الصاروخي الأمريكي في الأراضي البولونية، فيما يبدو وكأنه نوع من الضغط على روسيا كي تنسحب من جورجيا، بينما الحقيقة – في نظر روسيا – هي أن الأمريكيين استغلوا أحداث جورجيا للتسريع في توقيع ذلك الاتفاق، بهدف نشر تلك الوحدات الصاروخية باتجاه روسيا وليس إيران كما يدعون. فلو كان الأمر كما يقولون، لكان نصب تلك الصواريخ في أذربيجان أو أرمينيا أو تركيا أنسب بسبب قرب تلك البلدان لإيران من بولونيا.
لذلك لبت أمريكا جميع المطالب والشروط التي وضعها البولونيون كي يوافقوا على نشر تلك الصواريخ في بلادهم بتلك السرعة غير المتوقعة. وهذا ما بدا واضحاً في قول رئيس الوزراء البولندي لإحدى القنوات التلفزيونية، بأنه قد تم التوصل لاتفاق مع الأمريكيين، يقضي بموافقتهم على مطالب بولونيا الأساسية، وهي نشر بطاريات "باتريوت" المضادة للصواريخ متوسطة المدى التي تهدد أمنها.
ومع ذلك علقت صحيفة نيويورك تايمز على تعقيب بوش على أن ما يحدث في جورجيا، ليس حربا بمعنى الكلمة قائلة: إن الرئيس بوش اكتفى في تنظيره للمشكلة بأن"رَسَمَ خطاً جديداً في البيت الأبيض بين الدول الحرة وغير الحرة، ووضع روسيا في الطرف الثاني".
ومع ذلك فإن الصيغة التي كانت تنتظم العلاقات بين أمريكا وروسيا بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، وكذلك التنسيق الذي كان قائماً بينهما في أمور عدة كالملف النووي الإيراني والتعاون في الفضاء الخارجي، لا بد وأن يتأثر سلباً على نحو ما. وهذا ما عبر عنه وزير الدفاع الأمريكي "روبرت جيتس" حين قال بأن التوغل الروسي في أراضي جورجيا، يوجب على الأمريكيين النظر في إعادة تقويم الإستراتيجية الأمريكية حيال روسيا الاتحادية.
وحتى تكتمل الصورة للوضع الناتج عن هذه الحرب، لا بد من الوقوف على عدد من الموضوعات والمواقف الخاصة بأطراف هذا الصراع لعل من أبرزها: مخاوف أوروبا من توابع تلك الحرب، والموقف الروسي الحالي والمستقبلي وبخاصة بعد اعترافها باستقلال إقليمي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، واحتمالات قبولها لانضمام هذين الإقليمين لروسيا الاتحادية، وهذا ما سنحاول تناوله في المقال القادم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.