تشي كل وقائع السياسات الأمريكية تجاه سورية, بعدم تبلور استراتيجية واضحة لدي إدارة الرئيس باراك أوباما بشأن أزمة هذا البلد. هذا أمر لم يعد خافيا, ذلك أن الإستراتيجيات لا تتبع مبدأ التقية, كما لاتموه عملياتها, الإستراتيجيات لها ملامح وتباشير ونذر وإستعدادات, ولها دعاية سياسية تبرر استحقاقاتها, باختصار الإستراتيجيات لها عدتها. ثمة أسباب تقنية تقف خلف هذه الظاهرة ترجع إلي تقليد دبلوماسي قديم انتهجته الإدارات الأمريكية, وهو التعامل مع سورية انطلاقا من ارتباطها بملفات أخري, كإسرائيل ولبنان وإيران وتركيا, وليس بوصفها ملفا قائما بذاته يتطلب إستراتيجيات وتطوير سياسات معينة وتفعيل آليات ذلك. رغم كل ما قيل عن دور سوري سابق علي المستوي الإقليمي, ومحاولات النظام السياسي السوري في عهدي الأسد الأب والابن وتزخيم فاعلية هذا الدور وجعله يحظي بالإهتمام الأمريكي, إلا أن الدبلوماسية الأمريكية ظلت تتعامل مع سورية بوصفها ملفا ثانويا لا رئيسيا. في الجانب العملي والواقعي, فإن الولاياتالمتحدةالأمريكية, وبعد تجربتي أفغانستان والعراق والأزمة المالية, فإن مقاربتها للأمور بدت مختلفة تتناسب وظروفها, فهي تمر بمرحلة تغيير في تعاطيها الجيوسياسي مع قضايا الصراع العالمي, تقوم علي أساس ترشيد إستخدام قوتها عبر سياسة القيادة من الخلف, وهو منطق ينتصر للتوجه الإمبريالي بنسخته الأمريكية, والذي بموجبه تصبح التدخلات العسكرية مشاريع إقتصادية خاضعة لحسابات الجدوي, كما تدار الصراعات بتقنيات حسابية بحتة, بعد أن تتخلص من فائض الحمولات الإيديولوجية التي تقوم علي شعارات الدولة الأعظم والنموذج الأفضل. لم تصل أمريكا إلي هذه الخلاصات ببساطة, الوقائع تشير إلي أن ثمة صراعا شرسا شهدته أروقة البيت الأبيض وفي خزانات فكرها الإستراتيجي بين جيل قديم كان ينوي الإستمرار في النموذج الأمريكي القديم, وبين جيل جديد ورؤي جديدة لدور أمريكي في المنطقة, إنتهي بإنتصار الأخير وخروج الأول من دائرة التأثير نهائيا, في حين يمسك بصناعة القرار في إدارة أوباما الثانية الجيل الجديد, ونتيجة ذلك تسير السياسة الأمريكية بإتجاه نمط جديد يقوم علي إعادة تقسيم منطقة الشرق الأوسط إلي دوائر مصلحية, بعد أن جري تضييقها إلي أقصي الحدود تطبيقا لمبدأ الترشيد, وهي عمليا تكاد تنحصر في دائرة إسرائيل ودائرة النفط, ومحاولة جعل كل دائرة تنتج إمكانيات بقائها وإستمرارها ذاتيا, أو عبر أقل قدر من التدخل الأمريكي, وتعمل كل دائرة علي إنتاج هوامش الإستمرار بما فيها مقدرات الصراع والتفاوض. علي هامش هاتين الدائرتين, تدور جملة من الدوائر, القضايا, تتراوح أهميتها بمقدار تأثيرها علي هذه الدوائر, فمثلإ تتحول إيران إلي مجرد ملف يتم إختزاله ببرنامجها النووي ومدي تأثيره في أمن دائرتي إسرائيل و النفط, ولا يختلف هذا الأمر بالنسبة لكل من لبنان حزب الله او مصر بحكامها الإسلاميين الجدد. في هذا السياق تحتل سورية مركزا متدنيا في إهتمام السياسة الأمريكية, ذلك أن العنصر البارز فيها هو عنصر القتل, وهنا يجيب اوباما عن ذلك, حيث تساءل خلال مقابلة نشرتها مجلة ذا نيو ريبابليك لماذا ينبغي أن يشغل نفسه بالشأن السوري وليس الحرب الأهلية في الكونغو, وهو في ذلك تعبيير عن مدي هضم الإستراتيجية الجديدة وطبيعة توجهاتها. هذا فضلا عن حقيقة مهمة تتمثل في كون واشنطن تحاكم الوضع السوري علي أنه حالة إيجابية بالنسبة لمصالحها وذلك لجهة قدرة الأزمة السورية علي استنزاف الخصمين الروسي والإيراني وإشغالهما عن تطوير الملفات المؤذية لأمريكا, وهذا الأمر يأتي في إطار ترشيد الموارد الأمريكية, حيث يستنزف الخصوم بدون أدني تكاليف ونفقات. الثابت إذن, عدم تأثر الولاياتالمتحدةالأمريكية بالأزمة السورية, كما ان شبكة مصالحها لم تتأثر بعد, ومن المقدر ألا تتأثر في المستقبل القريب, ذلك ان ترتيباتها اللوجستية في المنطقة تتيح لها حماية مصالحها, فضلا عن أن تقديراتها المستقبلية بخصوص الأزمة تأتي في صالح أهداف إستراتيجيتها الكونية. وقد أظهرت التسريبات الأخيرة عن الجدل داخل الإدارة الأمريكية في شأن الوضع السوري بين الرئيس باراك اوباما وبعض مستشاريه ووزرائه, أن الرئيس أوباما لا يري الوضع في سوريا كتهديد استراتيجي للولايات المتحدة بعد ولا يتفق حتي مع وزرائه وكبار مستشاريه علي تقييم هذا الخطر وكيفية مواجهته, أن الرئيس أوباما, في أحسن الأحوال, يضع الحالة السورية في إطارها الانساني فقط ككارثة انسانية ولا يقاربها كأحد أهم التحديات الاستراتيجية التي تواجه المنطقة والمصالح الأمريكية فيها. الحالة السورية حتي اللحظة غير مؤذية لأمريكا, والتدخل, ولذلك فإن إستجابتها للأزمة ستبقي ضمن الفعل السلبي, الذي يعمل علي إغراء كل من روسياوإيران علي زيادة الغرق في الوحل السوري عبر إشعارهما أن الأزمة ليست مهمة لواشنطن, أما التدخل في هذه الحالة فهو إن حصل, فلن يكون تدخلا شاملا, بل موضعيا لإعادة ضبط مسارات الحالة, كما حصل في الضربة الإسرائيلية لمركز البحوث في جمرايا, الذي لابد أنه تم بتنسيق وإشراف أمريكي, فما دامت دوائر المصالح الأمريكية غير متأثرة فلن نري تدخلا أمريكيا أو تغييرا مهما في استراتيجيته.