مثلما لم يوفق العرب في تنبؤ الثورات التي حصلت في فضائهم, هاهم اليوم يندهشون إزاء الثورات التصحيحية الحاصلة في سياق ربيعهم. مما يثبت أن الثورات لم تكن سوي حدث سطحي وعابر, علي الأقل في المجالين الإدراكي والسياسي. الثورة العربية, وإن لم تظهر هذا البعد كثيرا, إلا أنها كانت ثورة ضد نمط الدولة السائدة, وليس ضد أشخاص وأنظمة بعينها, صحيح أن هؤلاء الأشخاص شكلوا العناوين المباشرة للحراك, إلا أن هؤلاء لم يكونوا سوي الممثلين الحاليين لنمط الدولة التي أفرزت هذا الإرباك التاريخي والذي نتيجته ارتسمت البلاد علي طيف واسع من الفشل امتد ليشمل كل شئ. حسنا, قد يكون هذا الأمر قد جري التطرق له في عملية البحث عن أسباب قيام الثورة, الثورات في لحظتها الأولي, لكنه, ومثلما لم يجر تمحيصه بعمق والبحث في أسبابه البنيوية, كذلك فإن هذا العامل لم يفقد قدرته التفسيرية للحدث الحاصل. ما حصل في مصر, ثورة تمتعت بحامل جماهيري, وهذه واحدة من أدوات الثورة, لكن وحدها لا تكفي, الاحتجاجات المطلبية قد تتمتع بمثل هذه النسبة من الحراك, خاصة بعد أن تبين أن هذا النمط الدولتي أعقد بكثير من أن يجري تفكيكه عبر الاتكاء علي عنصر واحد من الحوامل الاجتماعية والسياسية, إذ يفترض أن هذا النمط الدولتي وعلي مدار عقود من الحكم والتسلط قد أنتج نظائره المؤسسية والفكرية وعمقها بحيث أصبح تجاوزها يحتاج إلي ثورات مؤسساتية دستورية سياسية اجتماعية طويلة. في هذه الحالة, ليست ثمة أهمية تعتبر للوجوه والأسماء طالما هي تدور في ذات النسق, حيث ينعدم الفرق بين الإخوان المسلمين وجبهة الإنقاذ في مصر, ولو جربنا أن نفترض نظريا وصول الثانية بدل الأولي للحكم, فالمنطق يقولNki طالما سيتم اتباع ذات الآليات والطرائق فإن الأمور كانت ستصل إلي ذات النتيجة المأزق, القصد أن الطرفين يحكمان وسيحكمان بذات العدة وأدوات الدولة المصرية الاستبدادية التي تقذف ماكينتها يوميا الاف المهمشين الجدد, وتلجأ, لتبرير سلوكها وشرعنة إجراءاتها, إلي الإطار الديماغوجي, المصري, بتلوينات متعددة. وفي الواقع, لم تطرح كل قوي الثورة العربية برامج لإحداث تغييرات مهمة في حقلي الدولة والسلطة, بل اتكأت علي مشاركتها في الثورة ومساهمة مكوناتها فيها, وهذا العمل علي أهميته النسبية, لا يضمن حصول تغييرات مهمة في طرائق الحكم وفي الرؤي والتصورات السياسية لضبط المجتمعات, بقدر ما يعكس شيئا من التنظيم لهذه التنظيمات والمكونات ورغبتها في الوصول للسلطة, ما يحصر نتائج الثورات في صراع هذه الأطر علي السلطة, وربما هذا ما يفسر لجوء حركة الإنقاذ المصرية للجيش من أجل إيصالها للسلطة, بعد أن فشلت في الوصول إليها عبر الآلية الديمقراطية, ودون التمعن في النتائج المترتبة علي مخاطر هذا الانحراف, ودون الاهتمام, أيضا, بعملية التنمية السياسية بما تعنيه من تطوير دائم للعملية السياسية وحقلها ومفاهيمها. هل ثمة تفسير لمثل هذا الخلل؟ يبدو أن الحوامل السياسية للتغيير لم تصبح جاهزة بعد, ثمة اعتبارات بنيوية تاريخية لا تزال تقف عائقا في مواجهتها, وهذا قد يحتاج إلي صدمات عديدة وزمن أطول وبناء صحيح وصبور عبر تغيير النظم التعليمية والثقافية والقيمية مما ينتج بدوره ثقافة وقيما جديدة ستنتج بشكل بدهي نظائرها في العملية السياسية, ولحين الوصول إلي ذلك المنتهي ستمر البلاد بهبات كثيرة, وعليها أن تعتبر أنها في مرحلة بناء ولم تصل بعد إلي المستوي المثالي الذي ننشده. لمزيد من مقالات غازى دحمان