الفساد ظاهرة اجتماعية وسياسية واقتصادية معقدة, تمس جميع بلدان العالم, فالخير والشر جزء أصيل من النفس البشرية في هذه الدنيا بصرف النظر عن الجنسية أو العرق أو الدين أو اللون. وقد يدرك غالبية القراء ما هو الفساد ويستطيع أن يلمسه ويشم رائحته في أغلب تعاملاته مع الأجهزة الحكومية, والأثر المباشر البسيط للفساد الذي يستشعره المواطن هو أنه يدفع من ماله لموظف حكومي مالا يستحقه للحصول علي خدمة يستحقها أو خدمه لا يستحقها. ولكن لو نظرنا للمؤثرات السلبية الإجمالية علي مستوي المجتمع والدولة للفساد فسنجد أنه يقوض المؤسسات الديمقراطية ويعطل وتيرة النمو الاقتصادي ويسهم في زعزعة الاستقرار الحكومي.و يتصدي لأسس وثوابت المؤسسات الديمقراطية بتزوير الانتخابات وإفساد دولة الحق والقانون وبالتالي أجهزة بيروقراطية تتجلي وظيفتها الوحيدة في كيفية الارتشاء بجميع الطرق والسبل. كما يعمل علي عدم تشجيع الاستثمارات الأجنبية المباشرة والحد من قدرة المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر علي المنافسة والإستمرار في السوق لعدم قدرتها علي سد االتكاليف الإضافية المرتبطة بالفساد والرشوة, وتصبح التعيينات والترقيات وتولي المناصب القيادية والحصول علي المزايا الوظيفيه بأنواعها خاضعه لمعايير مطاطة قد ترتبط بالمصالح الشخصية لمتخذ القرار في كل حالة. وأهم وأسوأ آثاره السلبية هو سرقة الأمل والأمان من المواطن البسيط والشاب المقبل علي الحياة العملية لعدم ثقته في الأجهزة الحكومية وبالتالي في القطاع الخاص الذي يتعامل مع هذه الأجهزة, وأخيرا في النظام الحاكم الذي يسمح لهذا الفساد أن يستشري كالسرطان في كيان الدولة بأكمله. وإذا سلمنا بأن ثورة يناير قد قامت لتحقق عددا من الأهداف في مجملها تصب في القضاء علي الفساد داخل أجهزة الدولة المختلفة ابتداء من مؤسسة الرئاسة ومؤسسات تنفيذ القانون والمنظومة الانتخابية بكافة مشتملاتها والوزارات والمصالح حتي مستوي الساعي الذي يقف علي باب المصلحة الحكومية. فإنني أري من خلال رؤيتي المتواضعة أن تطبيق منظومة متكاملة لمكافحة الفساد في مصر هي المشروع القومي الأول الذي كان من الواجب أن تتبناه الحكومات المتعاقبة بعد الثورة. وهو ما لم نلمسه حتي الآن عدا ما ورد في المادة204 من الدستور المعطل والتي نصت علي تشكيل مفوضية وطنية لمكافحة الفساد, والتي جاءت بعد عامين من الحملات الإعلامية التي وظفتها لعرض محددات المشروع القومي لمكافحة الفساد, وتطبيق اتفاقية الأممالمتحدة لمكافحة الفساد والتي صادقت عليها مصر منذ عام2005 ولم يطبق منها شيء يذكر حتي وقتنا هذا لأسباب سنستعرضها لاحقا. مما سبق فإننا نستخلص أهم مقومات مكافحة الفساد التي يمكن أن نبني عليها الإطار العام للمشروع القومي لمكافحة الفساد في مصر وأولها علي الإطلاق الإرادة السياسية وتعني الإرادة الحقيقية للنظام الحاكم في وضع وتطبيق وتفعيل منظومة مكافحة الفساد, وأمثلة مدي توافر الإراده السياسية في تاريخ الأنظمة السابقة تتجلي في قيام الرئيس السادات بإلغاء هيئة الرقابة الإدارية عام1980 لتخطيها الخطوط الحمراء, وكانت تبعيتها في هذا التوقيت لرئيس الجمهورية مباشرة, وقد أعاد الرئيس مبارك تشكيلها عام1982 ولكن أصبحت تبعيتها لرئيس مجلس الوزراء وليس لرئيس الجمهورية وهو ما يوحي بأن رئيس الوزراء غير خاضع لإجراءات المتابعة الرقابيه شأنه شأن كافة موظفي الحكومه, وقد صادقت مصر علي إتفاقية الأممالمتحده لمكافحة الفساد عام2005 ولكنها لم تدخل حيز التنفيذ حتي وقتنا هذا, وقد تكون تفسيرات عدم توافر الإرادة السياسية في كل حقبة تختلف عن سابقتها, ففي عصر مبارك كان التفسير لعدم تفعيلها هو شمولها لبند يختص بإسترداد الأموال والموجودات المهربة للخارج بواسطة أنظمة الحكم الفاسدة وأما في عصر الإخوان فقد كان التفسير الأقرب للواقع هو شمولها علي بند يضع نظاما لحوكمة الإنتخابات بجميع أنواعها يحد من التزوير الانتخابي بدرجة كبيرة جدا ويفتح الباب أمام رقابة الأممالمتحدة علي العملية الانتخابية لضمان نزاهتها. والمقوم الثاني يتمثل في استقلالية أجهزة مكافحة الفساد والتي تنقسم إلي أجهزة التحقيق مثل الكسب غير المشروع والنيابة الادارية ونيابة الأموال العامة. وأجهزة تحري ورقابة وجمع استدلالات مثل الرقابة الإدارية ومباحث الأموال العامة والجهاز المركزي للمحاسبات. ونظرا لتعدد أجهزة مكافحة الفساد في مصر فإن مفهوم الأستقلاليه لجميع هذه الأجهزة يصعب تحقيقه عمليا. لذا فقد أوصت اتفاقية الأممالمتحدة لمكافحة الفساد بتشكيل كيان تنظيمي مستقل ينسق بين جميع هذه الأجهزة ويتابع نتائج أعمالها ويضع السياسات والإستراتيجيات اللازمه لتحقيق مهام مكافحة الفساد بما يضمن جودة وكفاءة الخدمه المقدمة للمجتمع وعدم الازدواجية في مسئوليات الأجهزه المعنية, من هذا المنطلق فإن هذا الكيان ضرورة لتفعيل أنشطة مكافحة الفساد في جميع بلدان العالم نتيجة دراسات مستفيضة قامت بها الأممالمتحدة في مختلف الدول طبقا لدرجة نموها الديمقراطي والاقتصادي..وقد لا أكون مبالغا إذا قلت إن مصر من أحوج هذه الدول للأخذ بهذا المقوم لتفعيل أنشطة مكافحة الفساد في مصر. ومن خلال الحملة الإعلامية المكثفة السابق الإشارة إليها لعرض المحددات العامة للمشروع القومي لمكافحة الفساد في مصر وأشرت خلالها لهذا الكيان المستقل كخطوة أولية في إطار اتفاقية الأممالمتحده, وهو ما استجاب له واضع دستور2012 كما سبق وأن أشرت بإدراج المادة204 التي نصت علي تشكيل المفوضية العليا لمكافحة الفساد..- والتي قامت لجنة الخبراء العشره لتعديل الدستور بإلغائها دون مبررات مقنعة, وقد أيد السيد وزير العدل ضرورة وجود ظهير دستوري لمكافحة الفساد من خلال إدراج هذه المفوضية بالدستور الجديد وألا تعاق أعمالها من خلال القوانين التي ستشرع لتنظيم أعمالها. وقد نستدل علي مدي أهمية هذا الكيان بعد إطلاعنا علي التصريحات الصحفية المتبادلة بين بعض أجهزة التحقيق أو أجهزة الرقابة التي تلقي كل منها باللوم علي الطرف الآخر لعدم إنهاء أعماله المتعلقة بالمئات من قضايا الفساد المحولة إليه. لمزيد من مقالات د. مدحت الشريف