حين ارتفعت أسوار الزهق حول الروح, لم يعد هناك قدر من الصبر علي نظام المتأسلمين الساقط بفعل الجمود وإصراره علي المقاومة اليائسة بتدمير أي جميل في حياتنا, وتأجيره لمرتزقة بلا أمل يتجمعون في بعض الشوارع مرددين هتافات بائسة تكشف عن عمق جهلهم بما حمله الثلاثين من يونيو والسادس والعشرين من يوليو, وفوجئت بسطور بدت كفأس قوي يضرب جدار الزهق فيلقيه بعيدا عن الروح, جاء كتاب مستقبل الثقاقة في مصر لطه حسين في طبعة جديدة فأجلس إليه قارئا كلمات من قال لمتظاهرين مستأجرين من خصومه ليهتفوا ضده أحمد الله أن جعلني أعمي كيلا أري وجوهكم, ويحدثني طه حسين هذا الذي بدا وكأنه فيض نور جاءنا ليزيدنا بصيرة سبق وأن زود بها أجيالا سبقتنا. أملي طه حسين كتابه هذا عام1938 بعد معاهدة1936 التي دفعت حلم استقلال مصر عن إنجلترا بضعة خطوات في طريق الواقع, فبدلا من وجودنا كمحمية بريطانية صرنا دولة يمكن أن نتدارك بها بعضا مما فاتنا بعد احتلال إنجلترا لنا عام1882. جاء الكتاب بكلمات كموسيقي الهمس المتنبئ بفنون صناعة المستقبل. وبفهم العملاق طه حسين أن التاريخ لا يعيد نفسه لكن بعض المواقف تتشابه, ويبقي من أي بشارة بنصر قديم; ضوء شمعة في ميلاد النصر القادم, واستقبلت عيوني سطور المقدمة الحديثة بقلم جابر عصفور تلميذ سهير القلماوي التي كانت أثيرة لقلب وبصيرة طه حسين, والتي أسست بآداب القاهرة مدرسة في التلقي تعتمد علي الدراية بجانب الرواية, فمن المهم أن تعرف روايات التاريخ, ومن المهم أن تجيد التقاط خيوط تنسج منها قدرتك الخاصة علي تمحيص التاريخ كي تتقدم إلي الأمام. وتلقي جابر عصفور من أستاذته تلميذة طه حسين فنون تفكيك التاريخ وإعادة ترتيب الجدوي منه ليقدم نسيجا محكما من فهم النقد كأداة للغوص في أي نص أدبي كي يستطيع القارئ امتلاك موسيقي الروح من النص الأدبي. ويكشف للقارئ جوهر الكتاب ومن قام بتأليفه, فهاهو طه حسين يطلب أن يتعلم المصري منذ ميلاده قيمة الوجود في وطن يحيا فيه, وأن يستوعب العالم المحيط بنا, وبالحضارات التي مرت علينا, لأن الكون ينتظر منا ميلادا جديدا يردم هوة العجز الإنساني عن تحقيق هدف عدم استنزاف الإنسان لأخيه الإنسان, وأن يعي كل منا أن وجوده في الكون هو للإضافة لا للخصم, فإذا كان الاستعمار هو خصم من كرامة البشر والأرض, فمقاومة الاستعمار تتطلب رفض وضع القطيع الفاتح فمه دهشة من فرط رؤيته لتقدم المستعمر, والفكاك من أسر هذا المستعمر لا يطلب الغرق في إستحلاب ما كان لنا في سابق العصر والزمان من معجزات, بل نستوعب ما مضي بتمحيص; وفرز للتحضر المطل علينا من الغرب لا لنشعر بالدونية أمامه ولكن برؤية ما يمكن أن نستفيد به من علومه. والإبداع لا يعني أبدا الاستسلام إلي الاتباع, والاتباع هو القضية الموجودة بذاتها في صورة المتأسلمين الذين أسسوا تيارا يقيم وجوده علي جوهر شاذ; يتسلق عقارب الزمن مطالبا إياه بالعودة قرونا إلي الوراء, مستجلبا خلال مقاومة عقارب الزمن ما روي من قديم الفتاوي التي تحلل وتحرم, دون أن تتأمل لتتفقه. ومع سطور المقدمة والكتاب يمكن أن نري قيمة صدوره وقد تحررنا بما دفعناه من ألم ودم, في السنوات الاربعين الماضية; حين خرج من جحور التزمت تيار إدعاء التأسلم, ليفرغ رصاصات القتل في صدر السادات بعد عشر سنوات من إفراجه عنهم. وكان نمو هذا التيار هو ابن لغياب الأمل عن مهمة إبداع المستقبل, لأن الرأسمالية المتوحشة قد قامت بمحاولة تقزيم مصر بأسوار من معونات تفرغ الواقع من حيويته, وتجعله لاهثا وراء إنتاج ما يطلبه كل دولار نتلقاه كمعونة, فأصاب الإرهاق العديد من المصريين, ليدفعهم إلي الغياب عن الواقع بالإنغماس في فهم منقوص للدين. ويكفي أن نتذكر ملامح كرستوفر وزير خارجية الولاياتالمتحدة الأسبق وهو يحاضر في جامعة بيل منذ سنوات كل دولار نقدمه كمعونة لغيرنا, يصطاد أربعة دولارات أخري علي الأقل سواء كتكلفة لتحقيق مصالحنا وأماننا أو للترويج لما ننتج. وحدث التلاقي بين الغرب وبين جماعة المتأسلمين ليأخذ من سبقهم للحكم وسيلة يحقق ما يصبو إليه من تحقيق حلول لمشكلات يعاني منها هذا الغرب, فقام المتأسلمون بستار ديمقراطي في الشكل, شديد الاستبداد في المضمون, ليجعل من الاتباع جوهرا يفرضه علينا دون أن يكون لنا حق الإبداع. وفوجئ الكون كله بأن المصريين هم من قرروا إنقاذ فكرة الديمقراطية نفسها من التجارة بها عبر صناديق تزدحم بأصوات المغسولة عقولهم بأوهام حزب سياسي يتاجر بهم, هؤلاء المصريون هم من خرجوا في الخامس والعشرين من يناير لينهوا عصرا من ركود, وكتبوا نهاية لحكم المتأسلمين الذين أرادوا لنا أن ندخل قفص احتلال منخفض التكاليف للغرب, هنا خرج المصريون مرة أخري في الثلاثين من يونيو لينقذوا فكرة الديمقراطية من التدليس الذي ادعي أنه شرعي, وكانت بطاقة التمرد حمراء اللون تؤكد ألا مكان للركود أو الغياب بالغرق في بئر الاتباع الآسن, ولابد من إبداع طريق مستقبل مختلف, وجاء التوحد في نسيج قادر علي القتال بالأمل في السادس والعشرين من يوليو ليقول لقائد الجيش مادمت قادرا علي حراسة أحلامنا فلنحققها معا. ومع سطور الكتاب ورؤاه, يتبدد الزهق ليمنحك طاقة إصرار علي صناعة مستقبل لا رضوخ فيه. لمزيد من مقالات منير عامر