ربع قرن أو يزيد، يفصل بين مشهد النهاية فى فيلم «الأرض» 1970، ومشهد البداية فى فيلم «المصير» 1997، وكلاهما لفنان السينما الكبير يوسف شاهين (1926 - 2008)، فيهما نرى المواطن المصرى محمد أبوسويلم، والفرنسى جيرار بريل يُسْحلان بربط كلٍ منهما خلف حصان يجرّهما على الأرض، عقاباً وقهراً وتنكيلاً، فى إشارة جليَّة لسيادة الجهل والتسلط والاستبداد.. وغياب الحرية والديمقراطية.. فى الأول يدافع أبوسويلم عن الأرض حتى الموت.. وفى الثانى يدافع جيرار عن الفكر حتى الحرق! فى «المصير»، الذى تدور أحداثه فى القرن الثانى عشر بالأندلس، يدين شاهين طائفة المتأسلمين، تُجَّار الدين، طُلَّاب السلطة، ورؤيتهم التى تعتنق السكون والجمود والانغلاق، تنظُر إلى الوراء وتقْنع بالتفسير دون الاجتهاد والتأويل، تكرّس الواقع وتنافق السلطان كى تتمكن من السلطة.. وينتصر لرؤية مغايرة، تنطلق متحررة مستنيرة، ترنو إلى المستقبل وتتطلع إلى حياة أفضل للإنسان، تحترم العقل والعلم، وتُغلِّب التجديد والإبداع على التقليد والاتباع، ويضع أمام أعين وعقول المشاهدين حقيقة أن التعصب آفة تنخر فى جسد الأمم حين تخور قواها وتضعف قياداتها ويتواطأ فيها، الكهنة مع السِفْلة، والفاسدون مع المتَّشحين برداء الدين، المقاومين لحق التفكير وحرية التعبير، الذين ينصبون المشانق للمفكرين، ويحرقون الكتب، ويغتالون الأدباء والفنانين، ويسحلون المعارضين! يستكمل شاهين فى «المصير» رحلته فى التصدى لقوى الجهل والتخلف، فيقدم عملاً يفيض بالمعاصرة، وإن تدثّر بالتاريخ، يمزج فى حذقٍ وحصافةٍ بين الماضى والحاضر، محاولاً استقراء التاريخ، مستفيداً من تجاربه فى قراءة الواقع الآنى، مستلهماً حياة ومحنة العالم الفيلسوف الفقيه قاضى قضاة قرطبة، أبوالوليد محمد بن أحمد بن رشد، (1126 - 1198)، فيلسوف العربية الأكبر، وما حاق به على يد رجال ذلك التيار الفاشى، ليأتى الفيلم درساً ثميناً فى حتمية انتصار الحق والعدل، وتحذيراً من عواقب التحالف بين رجال الحكم وجماعات الظلام والتطرف، مشيراً إلى أن هدفهم الأساسى ليس إعلاء كلمة الدين كما يدَّعون، بل الوصول إلى السلطة.. يرحل شاهين (2008) قبل أن يرى أن ما حذَّر منه قد وقع، وأن تيار اليمين المتطرف قد استولى على السلطة، وقفز إلى الحكم، بعد أن نجح فى اختطاف ثورات الشعوب العربية، وتأجيل الأمل الذى راود مواطنيها فى مستقبل أفضل. مرة بعد أخرى، تثبت الأيام عمق رؤية يوسف شاهين، ونفاذ بصيرته، وقدرته على استشراف المستقبل، فضلاً عن براعته فى التعبير بالسينما -بوعى وجسارة- عن جوهر الواقع المعاصر، عبر نماذج مشرقة ومضيئة فى التاريخ العربى.. لذا تأتى كلمات ابن رشد فى «المصير» منذ ستة عشر عاماً وكأنها موجّهةٌ إلى حكام هذا الزمان.. يقول العالم الجليل مخاطباً سلطان الأندلس «الإمام المنصور يوسف بن يعقوب»، محذراً من خطورة ذلك التيار «اللى بينخر زى السوس فى سلطانك.. فيه ناس بتحط عينها على السلطة.. للأسف مولانا فتح لهم السكة.. استولوا على كل المساجد.. ومفيش غير صوتهم بس هو اللى مسموع».. ينبهه السلطان أن من يعنيهم هم «رجال دين».. يرد ابن رشد بثقة وأسى: «دول تجَّار دين بيرقصوا على كل الحبال»!