لم يكن الفن يوما في معزل عن أحداث التاريخ و الممارسات السياسية عبر كل بلدان العالم. فدائما كانت هناك علاقات شديدة الصلة بين ما يحدث من مجريات الأمور علي أرض الواقع بمؤثرات و تغيرات و بين ما نقابله من عناصر وألوان وكيانات لونية يضفيها الفنان بريشته وأنامله علي سطح اللوحات أو تكوينات نحتية أو محفورة, لتبرز لكافة الأجيال الحاضرة ثم من يليها متحولة من إبداع لحظي إلي سجلات وشهادات موثقة عن الماضي, ليسرد خلالها حياه الأمم السابقة وعن طريقها تكشف المواقف والخبايا التي كثيرا ما وأدها الساسة والحكام الطغاة لكي تظل مدفونة عن الأنظار, غافلين عن قيم وأدوار كانت وستظل الثقافات و الفنون تقوم بها عن الأزمان مهما اختلفت مساحات الوعي والحريات بامتداد الحدود بين الأوطان, ولعل من أهم الأعمال التي شهدها القرن الماضي هي لوحة الجيرنيكا للفنان بابلو بيكاسو, وقد أبدعها عام1937 م, خلال الحرب الأهلية الأسبانية وتواطأ الطرف الألماني بقصف مدينة جيرنيكا, حيث جاءت اللوحة بتكليف مباشر من قبل الحكومة الأسبانية الجديدة في دلالة علي ادراك قوة تأثير الفنون بالمجتمعات وتسجيلها للوقائع, لتأتي اللوحة مقيدة بين درجات الأبيض والأسود وما بينها من ظلال رمادية توحي بمدي الحزن والهلع الذي أصاب المجتمع الأسباني حينها, منفذها بهيئة جدارية حيث وصلت أبعادها لما يقرب من ثمانية أمتار عرضا وبارتفاع ثلاثة أمتار ونصف المتر ليضم خلالها العديد من العناصر الرمزية وبما عرف عنه من المدرسة السريالية التي كان رائدها, وصاحب العرض الأول للوحة في معرض باريس الدولي أكثر من ستين عملا تحضيريا ودراسات تشكيلية للعمل الرئيسي, وكان لتلك اللوحة تأثير متسع النطاق حيث كانت سببا مباشرا في تقليص ويلات الحرب ومن خلال جولات قامت بها حول العالم لتتعاطف الشعوب والبلدان مع ضرورة وقف الحروب وقد امتد أثر لوحة الجيرنيكا إلي عالمنا المعاصر ليتم الترويج لها وعرضها حين أعلنت أمريكا الحرب علي العراق, وقد مرت اللوحة بعدة مراحل تنفيذية أشبه بإخراج عمل درامي يحوي الكثير من الأشكال والمعاني, ليحتل مشهد الصدارة حيوان الثور انعكاس لوحشية الحرب والقتل والتخريب, ثم الحصان معبرا عن كرامة أسبانيا وقيمتها المنهارة, ثم الأجزاء البشرية المتناثرة علي سطح العمل كصرخة وفضح عن كم القتلي والجثث وكإشارة للضمير الإنساني المفقود منذ تلك الزمن البعيد, واليوم مازال هذا العمل باق داخل جدران متحف الملكة صوفيا الوطني للفنون بالعاصمة مدريد, كشاهد علي إبداع الفنون ودورها الحقيقي بالمجتمعات غربية أو شرقية الكل سواء, فالإنسان يبقي واحدا مهما تنوعت أشكال الحياة من حوله, ويظل يبحث حتي يومنا هذا عن نفس الحلم العيش.. الحرية..الكرامة الإنسانية بكل اللغات وأيضا الألوان.