عقب انتصارها في الحرب الباردة عام1988, بحثت القوي الحاكمة الأمريكية عن رئيس الدولة الذي يناسب لحظة قطف ثمار الانتصار, فاختارت الضابط السابق,رجل ومدير المخابرات المركزية الأمريكية جورج بوش الأب. إنه نفس سلوكها عندما جاءت بقائد جيوشها في الحرب العالمية الثانية الجنرال داويت أيزنهاور, لموقع الرئاسة عام1952 بعد سبع سنين من انتهائها,وذلك لترسيخ نتائج انتصار أمريكا في تلك الحرب. وقد أسفرت نتائج الحرب الباردة عن انهيار وتفكك الاتحاد السوفيتي السابق فعمت الفوضي جميع أنحائه وجمهورياته خصوصا روسيا الاتحادية, التي قصدتها عصابات الفوضي والنهب وغسيل الأموال الدولية, فعاثت فيها فسادا لنحو عشر سنوات,لم ينقذها منه إلا فتاها ومدير جهاز مخابراتها بوتين فتقدم الصفوف, وفاز بانتخابات الرئاسة مرتين, ثم تركها-التزاما بالدستور-لرفيقه ورئيس وزرائه ميداديف ثم عاد إليها مجددا. وكان رصيده في جميع الأحوال هو نجاحه الكبير في وقف الفوضي والتصدي لعصابات المافيا والفساد,وإستعادة مفردات الأمن القومي للبلاد لتصبح الموجه الأساسي للرؤي والسياسات كما هي في أي دولة محترمة. بين هذا وذاك,فإن فرنسا التي ضربتها الفوضي عقب نهاية الحرب العالمية الثانية عام1945, لم تجد منقذا تعهد إليه بقيادتها إلا جنرالها وقائد جيش تحريرهاشارل ديجول,الذي عاد في هدوء إلي موطن رأسه بعدما فرغ من مهمته, ثم استدعته فرنسا عام1958, لينقذها من الفوضي وعدم الاستقرار الذي حل بها مجددا, ويؤسس جمهوريتها الخامسة,التي رأسها أحد عشر عاما متواصلة قبل استقالته الاختيارية عام1969, بعد استفتاء طرحه ووافق عليه الفرنسيون بالأغلبية الكافية دستوريا, لكنها لم ترض طموح الجنرال العنيد فترك الرئاسة لرفيقه ورئيس وزرائه بومبيدو. الأمم والشعوب المتقدمة, والديمقراطية حقا,تدرك أن عسكرييها وقادة مخابراتها البارزين, هم رجال اللحظات الحرجة,والتحولات الكبري,بحكم خبراتهم الاستراتيجية, ومعرفتهم بمتطلبات الأمن القومي التي لايمكن مجابهة التحديات الكبري إلا بمراعاتها والنزول علي مقتضياتها.لذلك لم يكن هناك من يمكنه معايرة أمريكا أو فرنسا ب حكم العسكر رغم أن أمريكا نفسها هي التي اخترعت هذا الحكم وعممته في دول أمريكا اللاتينية التي اعتبرتها فناءها الخلفيغير المسموح لأي قوة ولو كانت صديقة بمجرد الاقتراب منه.أما بوتين فمضي في طريقه لإعادة الاعتبار لبلاده غير عابئ بالدعايات الأمريكية المعادية التي أطلقت عليه وصف القيصر وسخرت من تبادله موقع الررئيس ورئيس الوزراء مع رفيقه ميدا ديف باعتبار ذلك خروجا علي النموذج الديمقراطي الأمريكي باعتباره المعيار الوحيد للديمقراطية في جميع أرجاء المعمورة. الآن علي من يريد إكمال الطريق الذي بدأ في الثلاثين من يونيو وعلي القوي المدنية التي أيدت تصفية اعتصامي رابعة والنهضة,واعلنت أنها ترفع رأسها عاليا بسبب نجاح الشرطة في آداء هذه المهمة,وتفاخرت باسترداد مصر ل إرادتها الوطنية في مواجهة التدخلات الأمريكية والأجنبية.عليهم أن يتسقوا مع مواقفهم, ويؤكدوا للشعب مصداقيتهم في تبنيها وأن يؤكدوا بوضوح أن مصر لن تحرم نفسها مما سبقتها إليه مختلف دول العالم التي قدرت ان قياداتها العسكرية و المخابراتية هم أجدر الناس بتبوؤ موقع القيادة فيها في الظروف الدقيقة والاستثنائية,التي تحتاج رئيسا يملك رؤي إستراتيجية واضحة,وقدرة علي تقدير أبعاد الأمن القومي لا يتوافر مثلها لأي قيادة مدنية في الساحة المصرية اليوم. إن العسكريين المصريين هم مواطنون مثل سائر المواطنين, يحق لهم الترشح للموقع الرئاسي, وان هذا الترشح ليس جريمة,يرتكبها المترشح,ولا مؤيدوه وداعموه. هذا الموقف هو تناغم من قبل هذه القوي مع ما يشبه الإجماع الشعبي الذي ناط بالقوات المسلحة مسئولية إدارة هذه المرحلة من تاريخ البلاد,ومن حقيقة أن قيادة الجيش قد استجابت لهذه الرغبة الشعبية, واعملت مقتضاها,وتحملت كامل مسئوليتها,سواء بوضع خطة طريقها, أو تحمل مسؤولية مواجهة الإعتصامات الإخوانية. أي موقف بخلاف هذا سوف يكون مزايدة رخيصة وغير مقبولة مهما تسربلت في شعارات براقة وخادعة,ومتعارضة مع واقع أن القوات المسلحة هي صاحبة السلطة الفعلية بتفويض الشعب,الذي أصبح يضع قائدها العام في صورة البطل المنقذالتي افتقدها هذا الشعب عقب رحيل جمال عبد الناصر في سبتمبر.1970 هذا واقع لامعني له إلا أن أي رئيس قادم من غير أبناء القوات المسلحة سوف يكون عبئا علي المنصب سواء بافتقاده السلطة الفعلية الحقيقية,أو بافتقاره إلي الدعم الشعبي الذي لاتوفره مجرد الأصوات التي تحويها صناديق الانتخاب. وسوف يكون ذلك تكرارا سخيفا لتجربة مرسي والإخوان,وربما دفعنا فيه ثمنا أسوأ من الثمن الفادح الذي ما زلنا ندفعه نتيجة تجربة حكم الإخوان. لايعني ذلك عدم ترشح القيادات المدنية في الانتخابات الرئاسية القادمة,فنحن نريدها تعددية حقيقية, بشرط ألا نخضع للمزايدات الأمريكية الإرهابية حول ما يسميحكم العسكر, فننهي بأيدينا مزاعمنا حول استرداد السيادة الوطنية. أدعو لتعديل خارطة الطريق بتقديم انتخابات الرئاسة علي انتخابات البرلمان,ففي الأولي فرص للتلاحم والتوحد حول أعداد محدودة من المرشحين,ولإرسال رسالة للجماهير بأن القوي المدنية تتفهم مشاعرها تجاه جيشها وقائده العام.كما ان تأخير البرلمانية يتيح فرصة أكبر من الوقت للأحزاب المدنية لتوفيق أوضاعها, وإتمام مهمتها الوطنية الأولي بالتوحد في أربعة أو خمسة أحزاب علي الأكثر, من خلال القيادات الميدانية التي ترغب في طرح نفسها في هذه الانتخابات, وباستثمار الخبرات الجماهيرية الناتجة من المشاركة-أولا- في الانتخابات الرئاسية.أرجو ألا تكرر القوي المدنية الأخطاء القاتلة التي ارتكبها الإخوان. لمزيد من مقالات أحمد عبد الحفيظ