تنتهي حريتك... حين تبدأ حرية الآخرين هذا الشعار كان لسان حال الحكومة الفرنسية منذ سنوات قليلة حين أمست ضواحي باريس ليالي دامية تحيطها الخراب من كل اتجاه لتتسع رقع الاضطرابات محولة شوارعها إلي ساحات معارك بين المتظاهرين والشرطة لتكشر الأخيرة عن أنيابها ضاربة بعرض الحائط ما تتشدق به بلدها من حريات التعبير طالما ارتأت أن ذلك سوف يتعارض مع مصالحها وأمنها. جاءت هذه الانتفاضة الدامية لتكشف النقاب عن العجز الواضح في فشل ديناميكية اندماج المهاجرين العرب والأفارقة في النسيج المجتمعي الفرنسي الذين غدوا يشكلون اكبر أقلياته وأكثرهم تهميشا وإقصاء مما فجر تراكمات المرارة والغضب في أوساط شباب الضواحي ليخلق أعنف موجة احتجاج شهدتها فرنسا والتي اندلعت شرارتها الأولي في أواخر أكتوبر2005 عندما فقد شابان من أصل مغربي حياتهما في نهاية تراجيدية صعقا بالكهرباء حين دفعهما الخوف من السقوط في يد الشرطة التي طاردتهم للاختباء ببناية بها مولد كهربائيا وباالرغم من تصريح الشرطة أن الشابين كانا يركبان دراجة نارية مسروقة امتنعا عن إفساح الجانب الأيمن من الطريق لسيارة الشرطة وأنهما لقيا مصرعهما نتيجة عدم ارتدائهما خوذات أثناء القيادة, إلا أن هذه التصريحات لم تقنع شباب الضواحي لتعم الانتفاضة أغلب ضواحي المدن الفرنسية الكبري مشتبكا فيها عشرات الشباب الغاضب مستخدمين أسلحة بدائية كالزجاجات المملوءة بالبنزين وعصي البيسبول مع أكثر من160 فردا من الشرطة الفرنسية مما أسفر عن إصابة أكثر من64 فردا من أفراد الشرطة مفجرين بذلك أعمال عنف تسببت في الليلة الأولي بإحراق23 سيارة وتعرض عدد من الحافلات للهجوم والتدمير وقد طالت الأضرار أيضا المؤسسات المدنية في عدد من البلدات والمدن بحرق مدارس وحضانات عدة في ضواحي العاصمة الفرنسية لتنتهي حصيلة أعمال شغب خلال19 ليلة بحرق8700 سيارة وتخريب العديد من المباني العامة وخسائر قدرت ب290 مليون يورو. وبلا شك يمكن القول إن الشرطة الفرنسة كانت الفاعل الرئيسي في مكافحة انتفاضة البؤساء, حيث جاءت تصريحات وزير الداخلية نيكولا ساركوزي آنذاك بعد يومين من اندلاع الأحداث بقوله إننا سوف نتخلص من هؤلاء الرعاع واعدا في حديثه لإحدي القنوات الفضائية إن فرنسا ستتعامل مع هؤلاء المجرمين علي حد وصفه بكل حزم محذرا من أن الفشل في فرض الأمن والنظام سيعني فرض قانون العصابات والمافيا وبالفعل بحلول نهاية نوفمبر كان عدد المقبوض عليهم يربو من الثلاثة آلاف علاوة علي اتخاذ الشرطة جميع الإجراءات الاحتياطية بما فيها حظر التجمعات العامة في باريس مستعينة بمروحيات للسيطرة علي الشوارع. ومع اشتداد الأحداث ضراوة بعد مضي أكثر من12 يوما استدعت وزارتا الداخلية والدفاع جانبا من احتياطي الشرطة والدرك معلنة فرض قانون الطوارئ في المناطق المتأثرة بأحداث الشغب لمواجهة ما أسمته وسائل إعلامها انتفاضة الضواحي, يعود تاريخ هذا القانون لحقبة الاستعمار الفرنسي للجزائر منذ50 عاما في مواجهة انتفاضة الاستقلال الجزائرية, إلا أن هذا القانون لم يطبق كاملا حيث اقتصر علي بند منع التجول في كل المناطق التي تستدعي ذلكفي مكافحة أعمال الشغب خاصة, وتم تمديدها لمدة ثلاثة أشهر في16 نوفمبر من قبل البرلمان الفرنسي, وبالإضافة إلي ذلك أقرت الجمعية الوطنية بعد عام من الاضطرابات قانونا جديدا أكثر تشددا للهجرة إلي فرنسا يجمع بين ثناياه إلغاء حق الإقامة للمهاجرين غير الشرعيين الذين لا يمتلكون مهارات وكفاءات الإقامة في فرنسا, كما انه يلغي حق الإقامة للمهاجرين غير الشرعيين الذين امضوا عشر سنوات في فرنسا, ويلزم القانون الجديد المهاجرين من خارج الاتحاد الأوروبي بالتوقيع علي تعهد بتعلم اللغة الفرنسية واحترام مبادئ الجمهورية ويضع قيودا شديدة علي استقدام المهاجرين لعائلاتهم من الخارج. خلاصة القول أن فرنسا الرافعة لشعارات الديمقراطية والإخاء والحرية وجدت نفسها فجأة أمام أسوأ أعمال عنف وشغب شاهدتها منذ أكثر من ثلاثين عاما لتضرب بيد من حديد كل ما يهدد أمنها ومنتهجة مختلف وسائل القمع الممكنة ضد أي محاولة لمس سيادتها الداخلية مستخدمة كل الوسائل للقضاء علي هذه الاحتجاجات وأعمال الشغب بالرغم من أنها هي التي لم تراع حقوق هؤلاء المهاجرين فثورة البؤساء لم تنطلق من عدم.