الاضطرابات التي جرت في فرنسا خلال الأسبوعين الماضيين وفيما سمي بانتفاضة المهمشين أثارت ومازالت تثير الكثير من ردود الأفعال فرنسيا ودولياً وعربياً.. لقد اختلفت التفسيرات والتأويلات حول أسباب هذه الاضطرابات التي بدأت في ضواحي باريس ثم انتقلت بعد ذلك إلي ضواحي كثير من المدن الفرنسية فهل ليون وبورجاندي وتولوز ومارسيليا والتي أدت إلي احتراق عشرات الآلاف من السيارات وجرح عدة آلاف وفرض حالة الطوارئ في باريس وفي بعض المدن الفرنسية ربما لأول مرة منذ حوالي نصف قرن. البعض مثل وزير داخلية فرنسا الطامح إلي الرئاسة يصفها بأنها انتفاضة حرامية ورعاع ويتهم العصابات المنظمة وتجار المخدرات والمتطرفين الإسلاميين بإشعالها، وتلقي قواته القبض علي أكثر من 500 شخص من ذوي الأصول الإفريقية والعربية ويصدر أحكاماً بالطرد للبعض منهم. والبعض الآخر مثل رئيس الوزراء الشاعر دي فيليبان والذي كانت له مواقفه الرائعة دفاعاً عن العراق ضد الغزو الأمريكي ودفاعاً عن الفلسطينيين ضد التجاوزات الإسرائيلية، لا يتورط مثل وزير داخليته في وصم الذين أثاروا الشغب وقادوه بأنهم رعاع وحرامية، ولكنه يعمل علي وقف الشغب بكل الوسائل وتحت شعار ضرورة استنباط الأمن والعدالة. والبعض الآخر خاصة من اليسار الفرنسي الذي يضم الاشتراكيين والشيوعيين والخضر يدين الشغب ويدين أيضاً أعمال العنف ولكنه يشير إلي عدد من القضايا الاجتماعية والاقتصادية المزرية والسيئة التي يعيش فيها أهل الضواحي وشبابهم حيث تنتشر البطالة وتقل الخدمات الصحية والتعليمية ويطالب باعتمادات مالية كبيرة للنهوض بتلك الأحيان التي تقع في ضواحي المدن الفرنسية الكبري ويسكنها في الغالب فرنسيون من جذور إفريقية وعربية. واتجاه رابع يقول إنها انتفاضة شعبية للمهمشين في المجتمع الفرنسي من سكان الضواحي التي تحولت إلي جيتو يعزل فيه من جاءوا من جذور غير فرنسية، وبالرغم من أن غالبيتهم العظمي يحمل الجنسية الفرنسية إلا أنهم يعاملون كمواطنين من الدرجة الثانية أو حتي الثالثة، ولا ترعاهم الحكومات المتعاقبة خاصة حكومات اليمين، وتبلغ نسب البطالة أكثر من 20% من الشباب وهي ضعف النسبة العامة في فرنسا كما أن غالبيتهم لا يتلقون التعليم الصحيح والرعاية الطبية الكاملة. حول هذه التفسيرات الأربعة الرئيسية يدور الحوار حالياً في المجتمع الفرنسي، بل وفي المجتمع الأوروبي كله، حيث إن الاضطرابات الفرنسية الأخيرة أثارت المخاوف والاحتمالات من امتداد هذه الظاهرة إلي كثير من البلدان الأوروبية خاصة إنجلتراوألمانياوبلجيكا وهولندا وإسبانيا حيث توجد جاليات كبيرة من أصول عربية وإفريقية وتركية وآسيوية. ويقدر عدد الجاليات من جذور غير أوروبية والمقيمين في تلك البلدان والحاصلين في نفس الوقت علي جنسية تلك البلدان الأوروبية بحوالي 18 مليوناً، منهم 5 ملايين في فرنسا و4 ملايين في ألمانيا، وحوالي هذا العدد في إنجلترا أي أن المشكلة ليست فرنسية بل أوروبية بشكل عام. ويتضح ذلك جلياً في السنوات القليلة الماضية حيث أصبحت تلك القضية وقضية المهاجرين من الجنوب والشرق بشكل عام أحد البنود الرئيسية في اجتماعات وسياسات الاتحاد الأوروبي، فالقوانين الخاصة والقيود الكثيرة التي وضعتها دول الاتحاد الأوروبي علي الهجرة إليها في السنوات الأخيرة، هي ولاشك أحد التداعيات المهمة لإحساس متزايد لدي الأوروبيين بأنهم إزاء غزو أجنبي من نوع جديد يمكن أن يهدد ثقافتهم بل والهوية الأوروبية نفسها. ولعل الصعود المتواصل لقوي اليمين الأوروبي، بل واليمين العنصري أحياناً يفسر ذلك، فهناك لوبان زعيم الجهة الوطنية الفرنسية والذي يضع في برنامجه وبوضوح طرد جميع الجاليات المقيمة في فرنسا والوافدة من دول غير أوروبية، واتهام تلك الجاليات بأنها السبب الرئيسي في تزايد البطالة في فرنسا (10%) وفي كثير من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، وهناك أيضاً حزب الفلامنج في بلجيكا والذي يرفع شعار تطهير بلجيكا مما يسميهم بالأصوليين الإسلاميين والأفارقة، بل إن الحزب المسيحي الديموقراطي في ألمانيا الذي سيقود الائتلاف الحاكم بزعامة ميركل يضع في برامجه بوضوح ضرورة الحفاظ علي الثقافة الألمانية والتراث الألماني والقيم الأوروبية من عمليات الهجرة المتصلة إلي ألمانيا والتي تحمل معها ثقافات أصولية وغير مسيحية وغير ديموقراطية. ويلاحظ أيضاً، خاصة في السنوات الأخيرة، زيادة الاتجاه المحافظ بشكل عام وزيادة النعرة القومية بشكل خاص في عديد من البلدان الأوروبية خاصة تلك التي كان يطلق عليها بلدان التسامح الفكري والديني خاصة إنجلتراوفرنساوإسبانيا، وكان رفض الدستور الأوروبي في عدد من تلك البلدان مؤشراً مهماً علي زيادة النعرات القومية والعرقية، وربما ساعد علي ذلك أيضاً الحركات والأحداث الإرهابية البشعة التي جرت في عدد من البلدان الأوروبية وقامت بها جماعات أصولية من أنصار القاعدة مثل نسف القطارات في إسبانيا وتفجير الألغام والقنابل في مترو الأنفاق في لندن وعمليات الاغتيال التي جرت لمخرج هولندي يخرج فيلماً عن الأصوليين. وإذا كانت كل هذه العوامل مجتمعة قد وجدت ظروفاً غير مواتية لتكامل الحضارات وخلق المجتمعات الأوروبية الحديثة القائمة علي التنوع الفكري والثقافي مثلما بشر بذلك الزعيم الفرنسي الاشتراكي الراحل فرانسو ميتران، أيضاً ازدياد نسب البطالة والأوضاع الاقتصادية وأفول دولة الرفاهية قد زاد من النعرات القومية والعرقية، إلا أننا لا يمكن أن نتجاهل عوامل أخري ساعدت علي ذلك من جانب الجاليات العربية والإسلامية والآسيوية في البلدان الأوروبية. والدراسات الكثيرة التي قامت بها مراكز أبحاث دولية محترمة ومستقلة تؤكد أن نسبة كبيرة تصل إلي 70% من الجاليات والعائلات الإسلامية في إنجلتراوفرنسا خاصة من جاءوا من دول عربية لا يندمجون في المجتمعات التي يعيشون فيها ويفضلون التواجد السكني في أماكن تجمعهم وحدهم بعيداً عن التيار العام لأهل البلد الذي هاجروا إليه، وهم لا يشاركون غالباً في الحياة السياسية والاجتماعية لتلك البلدان. كما تؤكد هذه الدراسات أن أكثر من 60% من تلك الجاليات الإسلامية ترسل أبناءها إلي مدارس إسلامية خاصة بعيداً عن المدارس العامة، بل إن بعضهم يرسل أبناءه إلي بعض البلدان العربية والإسلامية لاستكمال تعليمه في باكستان وإيران والسعودية. وهكذا تتضافر عوامل كثيرة في المجتمعات الأوروبية والأمريكية بشكل عام لخلق المجتمعات المتعددة الأعراق والحضارات والثقافات، كما تتضافر عوامل أخري وكثيرة لإجراء الانقسام والفرقة وإثارة النعرات الطائفية والعرقية، سواء من جانب اليمين الأوروبي المحافظ أو من جانب التيارات الأصولية الإسلامية..