أصدرت مؤسسة "الغاوون" للنشر والتوزيع في بيروت الطبعة الأولى من ديوان "غازات ضاحكة" للشاعر شريف الشافعي . يقع الديوان في قرابة ستمائة صفحة من القطع الصغير، ويتضمن أكثر من خمسمائة نص شعري قصير ، يشير العنوان الفرعي للكتاب إلى أنه الجزء الثاني من "الأعمال الكاملة لإنسان آلي"، وهي تجربة اختطها "روبوت متمرد" كممثل للإنسان في هذا العصر، وقد افتتحها الشاعر بالجزء الأول "البحث عن نيرمانا بأصابع ذكية" عام 2008. تنزع نصوص "غازات ضاحكة"، الديوان الخامس للشافعي، إلى التكثيف والإشارة، وأحيانًا التقطير والكتابة بالمحو رغم طول صفحاته، حيث تتعرى قصيدة النثر من الصيغ الجاهزة واحتيالات المجاز والذهنية والمفارقة، ساردة حيوية الحالة البكر، التي يتصالح فيها الإنسان دون ضجيج مع أعماق ذاته الغائبة أو المغيّبة. يقول في أحد النصوص: " المغنطيس الأحمق/ الذي يصرّ على أنكِ بُرادةُ حديدٍ/ لن يفوز أبدًا بِنُخالتكِ الذهبيَّةِ". غازات ضاحكة حمل ظهر الغلاف مقطعًا يقول فيه الشاعر أو الآلي: "لستُ صاحبَ مواهب استثنائيّةٍ/ صدِّقوني/ أتدرون: كيف عرفتُ/ أن هذه اللوحةَ لوحةٌ زائفةٌ؟/ لأنها ببساطةٍ لَمْ تكتشفْ/ أنني لحظة نظري إليها/ كنتُ إنسانًا زائفًا". وتمثل لوحة الغلاف، وهي من ابتكار الطفلة مي شريف (10 سنوات)، وجهًا إنسانيًّا جامدًا بملامح شاشة كومبيوتر، يضحك ضحكة مصنوعة. أما الضحكة الصافية الصادقة (الابتسامة الأورجانيك، كما في النص)، فلا ييأس الراوي من محاولة اصطيادها: "حياةٌ واحدة لا تكفي، لاعتناق امرأةٍ مبتسمةٍ". ويكشف وجه الغلاف، وهو من تصميم الفنان محمد عمار، ذريعة ذلك الضحك المغشوش، وهي فقاعات غاز الضحك أو الغاز المضحك (أكسيد النيتروز)، وهو غاز يستعمل حاليًا في التخدير قبل جراحات الفم والأسنان، وكان يستخدم قديمًا في حفلات الأثير (المرح ونسيان الألم)، حيث تنجم عنه انقباضات في عضلات الفكين، فيبدو الفم منفرجًا كأنه يضحك، في حين أنه مخدَّر في حقيقة الأمر، ومهيأ لإجراء جراحة مؤلمة.
تأتي الحياة الشهية في النص كبديل ضروري عن حياة رتيبة لا تطاق. وتتطور البساطة الخادعة، التي تفضح الأعماق وتجمع الكائنات والموجودات في مشهد، إلى رؤية كلية شاملة، وفلسفة شفيفة لا تخلو من كوميديا سوداء. وتتشبث الشعرية بالوقائع والتفاعلات وليس باللغة، ليتحول كل ما يصادفه الآلي في الحياة إلى اقتراح موقف شعري لا يكترث بالبلاغات المتوقعة، حيث تقتنص اللغة البسيطة المفاجآت، وتحاور البديهي بعفوية المؤمن بالدهشة، وكأن غاية الكتابة هي الاستمتاع الذاتي في الأساس. يتوسع النص في حكاياه النيئة، بغية الامتداد خارج البهتان، لتحقيق "التمرد" بفعله، لا بالتحريض اللفظي عليه. وتحتشد التفاصيل في بنية تطغى عليها السردية، ولا تخلو من سخرية مختلطة بمرارة أو باستهزاء. والآلي في "غازات ضاحكة" يتحرر من سطوة نيرمانا (أيقونة الجزء الأول)، ليتنقل من حالة إنسانية إلى أخرى، إلى أن يصل في المقطع الأخير إلى اقتناص الجوهر، وتحسس الماهيّة، فيقول: "عذرًا قهوة الصّباح/ موعدي اليومَ مع رشفةٍ عميقةٍ/ من الصّباحِ نفسهِ".
وتبدو الحالات التي يخوضها متتالية ومتشابكة في آن، فمن حالة الألم في ضرس العقل الإلكتروني والبحث عن علاج، إلى حالة التخدير واستنشاق الغاز المضحك وحدوث المرح المصطنع، إلى حالة الغيبوبة وهلوسات الروح الطينية الثائرة على برامج التحكم، إلى حالة الموت في الهواء الطلق، التي قد تعني انتصار إرادة الحياة الحرة لدى الإنسان الحقيقي على قوة أجهزة الإعاشة الجبرية للآلي في غرفة العناية المركزة. يشار إلى أن الشاعر شريف الشافعي له أربعة دواوين سابقة، وبحث بعنوان "نجيب محفوظ: المكان الشعبي في رواياته بين الواقع والإبداع" (الدار المصرية اللبنانية). وكان الجزء الأول من "إنسان آلي" قد صدر في ثلاث طبعات في مصر وسوريا ولبنان خلال الأعوام الثلاثة الماضية، وقد اختير للتدريس في جامعة "آيوا" الأمريكية و"جامعة الكويت" باعتباره "تمثيلاً لقصيدة النثر الحيوية، ونقطة التقاء الإبداع الورقي والأدب الإلكتروني".