ندعو الله أن ينجلي الغبار الدامي للعاصفة الحمراء التي ألمت بمصرنا العزيزة في أقرب الآجال, لتنتقل الصفوة المثقفة من السكرة إلي الفكرة.. من سكرة الثأر ومن دائرة الانتقام إلي فكرة الإنشاء وإلي حلقات العمران. وإنا لندعو جمهرة المثقفين وقادة الرأي ومراكز البحث المتخصصة إلي إعادة الفحص المدقق مرة أخري في المسائل الكبري التي تحيط بتطورنا الارتقائي علي مدارج المستقبل, وفي طليعة هذه المسائل العلاقة بين الدين والحياة عامة, وبين الإسلام والمجتمع العربي خاصة. وبينما ينظر تيار( الإسلام السياسي) إلي هذه العلاقة انطلاقا من الربط العضوي بين النصوص التأسيسية للدين وبين نموذج الممارسة السياسية المفترض, فإن ما يمكن أن نسميه' التيار المدني' يذهب إلي تأسيس الممارسة السياسية, فيما يبدو, علي الفهم الحداثي القائم علي' روح العصر' المفهومة ضمنا, بصورة عامة, علي أنها تنصرف أساسا إلي الحريات المفتوحة إلي أقصي حد ممكن, سياسيا واقتصاديا وفكريا. وما بين التقيد الأساسي بالنص في إطار تيار( الإسلام السياسي), والانطلاق الأساسي إلي عالمنا وعصرنا المجرد كمحور للنظر إلي المستقبل في إطار' التيار المدني', ينهض التيار القومي العربي التقدمي ليقدم نظرة تأليفية مبتكرة تقوم علي عنصرين: أولهما أن تاريخنا العربي هو تاريخ تشكل الأمة العربية, في إطار الثقافة والعمران, علي الأساس العريض للحضارة الإسلامية, أو هو تاريخ بناء نموذج حضاري عربي إسلامي متفرد. ولذلك فإن النظر الحقيقي إلي المستقبل مرهون بالعمل علي' استئناف التطور الحضاري'. أما العنصر الثاني فهو المزج الجدلي الخلاق بين المقومات( الثابتة نسبيا) للنموذج الحضاري العربي الإسلامي وبين أهم ما أنتجه عالمنا في عصرنا وهو التقدم العلمي التكنولوجي والعدل الاجتماعي, علي قاعدة من' ديمقراطية الشعب' والاستقلالية النسبية في العلاقات الخارجية, كما عبرت عنهما دائما حركة التحرر الوطني بتراثها العريق. ويترتب علي ما سبق, فيما يتصل بالعلاقة بين الإسلام والمجتمع, ما يلي: الإسلام في حقيقته الماثلة هو ثقافة' عمومية' بالمدلول السوسيولوجي, و هو منظومة أخلاقية للقيم, متضمنا عددا من الموجهات القانونية المستمدة من النظر في مصادر التشريع الإسلامي الأولي, في مجال العقوبات والمواريث و دوائر المعاملات, إضافة بالطبع إلي منظومة العبادات المقررة في علاقة خالصة بين الإنسان وربه. عدا ذلك, فإن من الضروري إبعاد الإسلام التأسيسي, نصوصا وممارسات, عن مقتضيات الصراع السياسي الآنية, دونما أية محاولة متعسفة لإسناد المواقف المتباينة لأطراف الصراع إلي نصوص مستمدة من القرآن, أو إلي نصوص وممارسات مستمدة من السنة النبوية الشريفة, أو إلي أحكام أو( اجتهادات) الفقه الإسلامي في مذاهبه السنية والشيعية العديدة عبر التاريخ الطويل. ويعني ذلك أن مسعي تيار' الإسلام السياسي' وهو أقوي تيار علي ساحة الوطن العربي والعالم الإسلامي خلال العقود الزمنية الأربعة الأخيرة إلي إقامة السياسة علي' الدين' هو أمر محل خلاف عميق. وإننا لندعو في هذا المجال إلي بعث حركة قوية في مصر من طرف تيار' الإسلام السياسي' لإعادة تقليب النظر في التراث العربي الإسلامي, لاشتقاق مواقف محددة تصلح أساسا لنموذج الممارسة السياسية المستقبلي علي المستوي العربي العام. ونشير في هذا المجال إلي أهمية الاستفادة من الأعمال الفكرية الكبري التي تمت في( المغرب العربي الكبير) منذ مطلع الثمانينات حتي الآن, ووقع أغلبها من خارج تيار' الإسلام السياسي' بمعناه العريض, ونشير هنا بصفة خاصة إلي الأعمال الرائدة لكل من عبد الله العروي, ومحمد عابد الجابري, ومحمد أركون, وهشام جعيط. وهذه الكوكبة المغاربية لم يكن يناظرها في مصر سوي حسن حنفي. أما من داخل تيار' الإسلام السياسي' فقد ظهرت شعاعات غير ذابلة ولكنها غير مصرية المنشأ بصفة أساسية أيضا من قبيل أفكار متناثرة لحسن الترابي وراشد الغنوشي. أما في مصر فقد أجدبت البيئة الفكرية للإسلاميين إجدابا تاما أو شبه تام خلال عقود الازدهار المغاربي, وخلت إلا من أعمال سابقة للبعض. ولقد كنا وجدنا في مصر في مراحل أبعد زمنيا, أعمالا فكرية رائدة, في الإطار العريض للتفكير بشأن التراث الإسلامي وعلاقة الإسلام بالسياسة والمجتمع. وأما خلال الأعوام الثلاثين الأخيرة فلا نكاد نجد علما فكريا واحدا من بين( الإخوان المسلمين), بينما لمع المنشقون أو المتفرعون عنها ليقدموا اجتهادات مختلفا عليها. وقد تولي' التيار السلفي' ملء الفراغ الفكري الذي أحدثه غياب مثقفي الطبقة الأولي من' جماعة الإخوان المسلمين', وأنجز السلفيون فيضانا ثقافيا هائلا, سرعان ما تسرب إلي داخل' الجماعة' نفسها والتي وجدت في' السلفية' ملاذا آمنا, وليحدث التفاعل العضوي المتبادل بين تيار يقدم( الفكر) و' جماعة' تقدم مثالا مبهرا علي استعادة عافية التنظيم الداخلي وقدرات التعبئة الجماهيرية والحشد العام( دون فكر), في أعقاب ثورة25 يناير ثم في أعقاب30 يونيو.2013 وقد حدث ذلك دونما تقديم أية إضافة تذكر, من جانب' الجماعة' بالذات, في مجال تجديد الفكر الإسلامي وتعريف المشروع الإسلامي الحضاري. فهل ترانا ابتعدنا في هذا المقال عن مقتضيات التعليق علي الأحداث الجارية, أم أننا اقتربنا منها بأكثر مما يظن الكثيرون؟ نرجو هذا, ونأمل أن يثمر حوارا فكريا خلاقا بين أعلام وأبناء تيار' الإسلام السياسي' من( الإخوان) و( السلفيين) وغيرهما, في إطار إعادة النظر في العلاقة الحقيقية بين الإسلام والمجتمع. لمزيد من مقالات د.محمد عبد الشفيع عيسى