اتخذت علاقة الثقافة بالسلطة السياسية في مصر مسارات متعددة، ما بين التوافق أحيانا والصدام في أحيان كثيرة، فأصحاب الفكر – دائما – ينظرون إلي الثقافة علي أنها الركيزة الأولي في الحرية الإنسانية، بينما يري كثير من أباطرة السلطة أنها بهرج شكلي وزينة. وفي كتابه «لمثقفون والسلطة في مصر» يقدم الناقد الراحل د. غالي شكري نماذج متعددة للمثقف بعد ثورة يوليو 1952 في البداية يقدم تعريفا للمثقف ناقلا له عن الفيلسوف الفرنسي «سارتر» وهو «أن المثقف شاهد علي المجتمعات الممزقة الذي تنتجه، لأنه يستبطق تمزقها بالذات، وهو بالتالي ناتج تاريخي، وبهذا المعني لا يسع أي مجتمع أن يتذمر ويشتكي من مثقفيه من دون أن يضع نفسه في قفص الاتهام، لأن مثقفي هذا المجتمع ما هم إلا من صنعه ونتاجه».. وإذا كان قد أطلق علي فترة حكم عبدالناصر «فترة المد القومي» حيث النموذج العروبي والوحدوي، فقد وجدنا هذا الوصف ينتقل إلي الثقافة فأصبح هناك مسمي «المثقف القومي» وهذا الوصف علي حد تعبير د. غالي شكري «ليس مقولة عربية فقط، وليس نموذجا عربيا فحسب، ففي أكثر أنحاء العالم وخلال حقب تاريخية مختلفة، كانت هناك المقولة والنموذج، واللغة العربية كريمة في التفريق بين ما هو وطني وما هو قومي، وإن كانت بعض الأقطار العربية تستخدم المصطلح القومي كمرادف للفظ «الوطني»، هذا الاستخدام ليس عفويا ولا نتيجة الجهل بالشيء، وإنما هو في الأغلب تجسيد لتيار فكري وسياسي سابق علي الاستقلال وتال له، وهو أحيانا أيديولوجية شائعة في الفضاء الاجتماعي للشعب بأكمله نتيجة طول العهد بالتجزئة القطرية، وأحيانا أخري إقرار دستوري بالأمر الواقع حتي إذا كانت الدولة ترفع شعارات قومية». وحدة الصفوف ويري د. شكري أن الوضع قبل ثورة 23 يوليو.. بالنسبة للثقافة والعقل المصري هو «صعود نسبي للراديكاليين من سلفيين واشتراكيين، وتمزق حاد في صفوف الليبراليين، وانهيار تدريجي للشرعية الدستورية وكانت إشكالية العلاقة بين المثقف والسلطة في مفترق الطرق». وتضمن الكتاب مجموعة من الشهادات لكل من خالد محيي الدين وعلي صبري وفتحي رضوان وتوفيق الحكيم وزكي نجيب محمود ولويس عوض. في شهادته – ذات الطابع الإنساني – يقدم خالد محيي الدين رؤيته الفكرية والسياسية كشاهد أساسي علي ثورة يوليو، مؤكدا المكونات الأساسية للنظرية الفكرية قائلا: «قام التراث القومي والديني بتشكيل عقليتي دون تناقض مع اقتناعي بالفكر العلمي، فالاشتراكية العلمية هي أم الفكر الاجتماعي الحديث أيا كانت تشعبات الاشتراكية إلي مدارس مختلفة، إنني أختلف مع بعض الشيوعيين في أمور، ومع بعض الإخوان المسلمين في أمور أخري، ولكني في جميع الأحوال أختلف مع الذين يعادون الحضارة الحديثة وكأنها الغرب، إنها حضارة إنسانية، وفيها جانب عربي، ولكنها تشتمل علي سمات الحضارة الإنسانية، وهي تتمة للحضارة الإسلامية ومن قبلها الحضارة المسيحية والحضارات القديمة كلها كجزء من التطور البشري العام». ويضيف محيي الدين قائلا: «إن أسلوبي في الحياة مستمد من التربة المصرية العربية الإسلامية، أما أداتي في التفكير أي العقل فإنها تستخدم أدوات العقل الإنساني الحديث، وهنا القضية، فالفكر ينتقل ولا يستورد، ليس هناك استيراد وتصدير في مجال الفكر، وإنما الفكر هو فكر العالم ينتقل من مكان إلي آخر». اختيار العقل ولذلك يري خالد محيي الدين أن اختياره للفكر الاشتراكي – كمذهب سياسي عقلاني – يعني إيمانه بالدور الطليعي للطبقة العاملة وبالجماهير الكادحة بقيادة هذه الطبقة. ويقول في عبارة دالة «إن الديمقراطية هي الصيغة الصحيحة لعملية التغيير، وإن تراثي القومي والديني هو جذوري التي لا مستقبل لي من دونها». ويعلق د. غالي شكري علي تلك الشهادة مؤكدا أن خالد محيي الدين كسياسي مثقف، يعبر عن موقف المثقف الشامل الذي يري الجزء في إطار الكل والحرفة والحياة والنظريات عبر الممارسة وكان المثقف المصري عموما عشية يوليو 1952 من هذا النوع بدرجات ومفاهيم متباينة، إذا كان مشتغلا بالعمل العام في حزب أو جماعة أو لجنة أو هيئة سياسية كانت أو ثقافية أو اجتماعية، كان الشرط المضمر في تكوين «المثقف» أنه يتبني أو ينتمي أو يبدع «مشروعا للتغيير». ويضيف د. شكري قائلا: «ومن قراءة المذكرات والوثائق والمؤلفات التاريخية المتناقضة عن الضباط الأحرار، لا يبدو المثقف اساسيا تكوين غالبيتهم واحيانا لا يبدو «السياسي» أيضا ولكن السياسيين منهم، قلتهم القليلة تكونت ثقافيا، وخالد محيي الدين من هذه القلة القليلة التي يتوازن فيها المثقف والسياسي». ولذلك كان صاحب الدعوة إلي تطبيق الديمقراطية فيما عرف بأزمة مارس 1954 وقد دفع ثمنا غاليا لموقفه هذا، ومنها نفيه إلي الخارج، لكنه وبعد عودته عام 1955 طلب منه عبدالناصر أن يترك سويسرا ويختار بين أن يكون سفيرا في تشيكو سلوفاكيا أو رئيسا لتحرير جريدة «المساء» ولأن خالد محيي الدين المثقف السياسي فإنه لم يتردد في اختيار جريدة «المساء». ويروي فتحي رضوان تفاصيل علاقته بالسلطة خاصة بعد ثورة يوليو 1952، ويري د. غالي شكري – في تعليقه علي شهادة «رضوان» – أنه نموذج استثنائي للشارع السياسي حيث خرج من السجن إلي السلطة، وهو من المثقفين أصحاب «المبادئ» و«المثل الأعلي» أما مبادئه ومثله الأعلي فقد كان الوطن في صورة التاريخ والجغرافيا والشعب في صورة القيم والروابط والمقومات. ويضيف د. شكري قائلا: «في واقع الأمر هناك التباس في علاقة فتحي رضوان بسلطة يوليو فقد كرس لشرعيتها من خلال الموافقة الصريحة علي مجمل السياسة «الناصرية» ولذلك استمر ستة أعوام متصلة في حكومات متعددة لسلطة يوليو كوزير، حتي خرج معتزلا السياسة. وكان سؤاله المضمر: نعم لسلطة المثقف ولكن أين المشروع؟ وضم الكتاب – أيضا – شهادة للأديب الكبير الراحل توفيق الحكيم علق عليها د. غالي شكري مشيرا إلي أن نظام يوليو هو الذي اختار الحكيم وتأثر به وإن كان الحكيم في كتابه «التعادلية» يبدو مؤيدا للحكم الناصري في مرحلتيه الوطنية والاجتماعية ولكنه التأييد المشروط ب «التعادل» بين الحكم والمعارضة، وهو التعادل الذي يستهدف تثبيت الحكم وتثبيت المعارضة، فهل كان توفيق الحكيم حقا أحد آباء نظام 23 يوليو كما يقول البعض؟