برحيل د. ثروت عكاشة فقدت مصر أهم بناة ثقافتها في العصر الحديث، فقد كان الراحل مؤسسة ثقافية قائمة بذاتها بما قدمه من إنجازات غير مسبوقة، فقد كان أول وزير للثقافة بعد ثورة يوليو 1952 - وأسس عدة هيئات ثقافية منها «الثقافة الجماهيرية» و«أكاديمية الفنون» و«مؤسسة السينما» و«الهيئة العامة للكتاب» وغيرها، بالإضافة إلي مؤلفاته وترجماته المتعددة، مما جعل منه أحد الوجوه المضيئة في العصر الحديث. الشاعر الكبير أحمد عبدالمعطي حجازي بدأ حديثه قائلا: «أولا ثروت عكاشة ضابط من ضباط يوليو 1952، والآن نستطيع أن نري هذه الحركة من خلال نتائجها، وما جرته علي مصر من محن، ولذلك فإن رأيي ورأي الكثيرين فيها الآن أصبح سلبيا، فقد خلعوا عليها اسم «ثورة» ولكنها لم تكن ثورة وإنما كانت انقلابا.أما ثروت عكاشة فقد كان في هذا كله له موقف مشرق لأنه من الضباط الذين وقفوا بجانب الشعب، حين طالب برجوع الجيش لثكناته وتسليم السلطة للمدنيين هو بعض الضباط الشرفاء أيضا، في نشاطه وفي عمله ودوره الذي أداه في الثقافة المصرية خاصة حين تولي وزارة الثقافة لمدة طويلة فقدم أعمالا جديرة بالثناء كان لها إيجابياتها وكان علي رأسها إنقاذ آثار النوبة، أيضا إنشاؤه ما لم يكن موجودا من قبل من فرق فنية وتزويده للثقافة المصرية بالمؤسسات والأدوات التي لا تستطيع أن تلعب دورها الذي أنشئت من أجله في العصر الذي نعيشه مثل «أكاديمية الفنون» ومعاهدها الجديدة، التي أضافت للثقافة المصرية فنونا لم تكن موجودة من قبل كالكونسرفتوار ومعهد الباليه بالإضافة إلي معهد السينما ومعهد التذوق الفني. ويضيف حجازي قائلا: أما الجانب السلبي في كل هذا أنه تم في إطار شمولي عاد بمصر إلي الوراء، وبذلك لم ننتفع من أعمال ثروت عكاشة كما يجب، فلم ننتفع بفن الباليه في مجتمع يدعو المرأة للنقاب، وعن مشروعاته في ظل نظام ضباط يوليو الذين جاءوا للسلطة بالتعاون مع الإخوان المسلمين ثم بعد ذلك انقلبوا عليهم واستبدوا بالحكم، ومنعوا المصريين من أي نشاط ثقافي حر، وكانت النتيجة - في النهاية - ما نراه الآن فقد ذهبت مصر إلي الإخوان المسلمين والوهابيين وبقيت «أكاديمية الفنون» كأنها في الصحراء. ومع ذلك لابد وأن نذكر بكل احترام وتقدير الدور الذي قدمه «عكاشة» في الترجمة والفنون مثل ترجمته لأعمال جبران خليل جبران وموسوعاته في الفن، بالإضافة إلي كونه رجلا محترما ابتعد عن الصغائر واحتفظ باستقلاله. العقد الذهبي أما المترجم طلعت الشايب فيري أن رحيل عكاشة يمثل خسارة فادحة ولكن عزاءنا في مثل هذه الأحوال هو ما يتركه الراحلون من إنجازات تؤكد أنهم مازالوا أحياء بعطائهم لبلادهم. فثروت عكاشة شخصية نادرة وندرته تجيء من كونه أحد العسكر القليلين في ثورة يوليو الذين كانت لهم إلي جانب اهتماماتهم الوطنية اهتمامات فكرية وثقافية ومجتمعية مثله مثل جمال عبدالناصر وخالد محيي الدين ويوسف صديق. وهي ظاهرة لو قارناها بعسكر اليوم - رغم التقدم والتطور والفارق الزمني والفارق العمري - لن تكون في صالح عسكر اليوم. ويضيف الشايب: ما تركه «عكاشة» كوزير هو ما جعل من عقد الستينيات «العقد الذهبي» في تاريخ الثقافة المصرية، من خلال دوره في إنشاء المعاهد الفنية وإنقاذ الآثار المصرية وإنشاء قصور الثقافة وغيرها. بالإضافة إلي إنتاجه كمثقف في كتب بالغة الأهمية مثل سلسلة «العين تسمع والأذن تري» وكتبه عن الفنون المصرية والتصوير الإسلامي وترجماته الرائعة التي تدل علي أنه مترجم مثقف وليس آلة تنقل من لغة لأخري، يتجلي ذلك واضحا من لغته الأدبية الراقية والشروح التي يضعها لمساعدة القارئ. كذلك لا ننسي كتابه المهم «مذكراتي في السياسة والثقافة» الذي كان لي شرف تحريره صحفيا، عندما اقترح عليه الراحل رجاء النقاش نشره مسلسلا في مجلة «أخبار الأسبوع» القطرية عام 1986، وكان النقاش وقتها الخبير الثقافي والمشرف لهذه المطبوعة بعد إغلاق الدوحة وكنت المسئول الثقافي بالجريدة. لقد كان ثروت عكاشة نموذجا للمثقف العضوي بلغة «جرامشي» فقد كان يعتبر الثقافة خبزا يوميا للمصريين. مراكز الفنون الناقد الكبير د. عبدالمنعم تليمة فيقول: بين الطفولة والصبا عرفت ثروت عكاشة فقبل الثورة قرأت له كتابا عن «المقاومة الشعبية»، وكان من الضباط الأحرار، ثم عرفناه كابن الباشا المعروف «محمود باشا عكاشة»، وحين قامت ثورة يوليو 1952 كان من الأصوات الراقية جدا في مسائل العقلانية والاستنارة والتقدم، بالإضافة إلي صفاته الشخصية والتزامه بالطباع الحميدة، وفي الوزارة كان اتجاه الحكم الجديد أن يفهم الثقافة مطابقة للإعلام وأن يكون الإعلام صوتا مباشرا للسلطة مع احتكار أدوات الاتصال وتأميم الصحف، وجاء «عكاشة» ليفك الازدواجية المعقدة، فقام ببناء بنية أساسية راقية أن يكون للفن مراكزه، وتكون هناك مراكز لتحقيق التراث الشعبي وأكاديمية للفنون، التي كان في أول إنشائها شيئا مذهلا في عهد أول رئيس لها العبقري أبوبكر خيرت، الذي استقدم الأساتذة الروس والإيطاليين في فن الباليه والأوبرا، بالإضافة إلي ما قام به عكاشة من إنقاذ لآثار النوبة. وكان بذلك يقدم أكبر دعاية لآثار مصر في العالم حيث تزايدت أعداد السائحين وقتها. وفي مسائل الطبع والنشر والموسيقي والسينما كان له الدور الأبرز، وكان يري أن الدولة لن تقوم بدورها إلا من خلال المثقفين من ذوي المناهج العقلانية، لكنه انشغل كثيرا بإقناع رفاقه من الضباط بذلك، ولم يركز جهده في الشيء الأساسي وهو تحرير الأصل والتركيز علي نشاط البشر في إقامة جمعيات ونقابات فنية، وتحرير أداء الأمة في جوانب الحريات الشخصية. لقد مشي «عكاشة» رغم جهده الكبير في العمل الثقافي في خط احتكار السلطة لكل الحيوات ومنها الحياة الثقافية كباقي ضباط يوليو. الزمن الجميل أما الفنانة القديرة محسنة توفيق تقول: رغم أن ثروت عكاشة جاء في لحظة تاريخية لم يكن يمتلك فيها صلاحيات كاملة لكنه قدم إنجازا ثقافيا مهما فقد أسس الثقافة الجماهيرية وعين علي رأسها المثقف سعد كامل والذي أعطي الفرصة الحقيقية لشباب الثقافة الجماهيرية، فحدث أداء ثقافي عبقري، وأنا كنت جزءا من ذلك فقد جعلنا ننتزع حقنا كفنانين، وأذكر أننا بعد هزيمة يونيو 1967 بالضبط وفي الأسبوع التالي لها مباشرة أقمنا ندوة في قصر ثقافة السويس قبل تدمير المدينة، وكانت الندوة بمثابة وضع موقف مقاوم علي الأرض، وكان هذا هو منهج ثروت عكاشة أما سعد كامل فقد كان البطل الحقيقي الذي دفع ثمن وجوده في منصبه فنظرا لانحيازه للمثقفين تم عزله. وتضيف محسنة توفيق: كان لثروت عكاشة دور ثقافي وحلم ثقافي فقد أكد علي نشر الفنون في مصر بقدر ما امتلك من شجاعة، وأعتقد أن طموحه كان أكبر من ذلك كما كان طموح عبدالناصر أكبر من هذا، لكن كمية المعوقات وأجهزة الأمن كانت ممسكة بيد من حديد من خلال أدواته ورجاله. وأزعم أن عكاشة قام بأكبر دور للدفع بالثقافة إلي الشعب من خلال الإبداع والاختيار، رغم أنه تمت محاربته من باقي النظام السياسي، ومنها الحكم المحلي فقد كانوا عتاة وضد الشعب - دائما - وكان التعبير عن الشعب وطموحاته محظورا، لكن «عكاشة» ساعدنا كفنانين ووقف معنا ضد الأمن. وأعتقد - بشدة - أنه قبيل اللحظة التي ترك فيها منصبه كوزير ثقافة قبيل موت «عبدالناصر» كانت هناك «بشائر انفراجة» في الثقافة، فعبدالناصر كان قد أخذ قرارا بفتح الحياة المصرية سياسيا وثقافيا، لكن يبدو أنه كان هناك من يخططون لإغلاق الحياة المصرية، فمشروع ثروت عكاشة كان مستفيدا من مشروع جمال عبدالناصر. وتؤكد محسنة توفيق: أن تلك المرحلة بكل معوقاتها كانت مرحلة الحلم والتعلم، وأنا علي المستوي الشخصي مدينة لهذه اللحظة فقد ساعدتني كفنانة علي التكوين والاختيار، أنا محظوظة لأنني جئت في لحظة تنوير فقد بني عكاشة بداخلنا شخصية «المحارب» فانتزعنا حقنا بالإصرار والإبداع. وجه مضيء ويري القاص سعيد الكفراوي أن ثروت عكاشة أحد الوجوه المضيئة لثورة يوليو، وزمنه مرتبط بما لا يدع شكا للكثير من الإنجازات التي تمت في عهده، بالرغم من أنه كان زمنا للمصادرة واضطهاد الآخر، ثروت عكاشة فتح مجالا واسعا لتقديم نماذج فنية وإبداعية جديرة بأن تتواجد في زمن الثورة، وكان وراء إنشاء «مدينة الفنون» بمعاهدها المتعددة، والتي يحمل خريجوها عبء تطوير الأدوات الفنية والإبداعية. كما أنه كان واحدا من الذين اهتموا وقدموا إنجازا مهما في مسألة نقل معابد رمسيس في النوبة ثم حركة النشر وإنشاء مؤسسة السينما وهيئة الفنون الشعبية التي رأسها عمنا يحيي حقي ومؤسسة السينما التي رأسها عمنا نجيب محفوظ، بالإضافة إلي ازدهار حركة المسرح المصري، وتم إعطاء الفرص الواسعة للنابغين من الكتاب أمثال ميخائيل رومان ومحمود دياب وسعدالدين وهبة ويوسف إدريس ونعمان عاشور وعلي سالم وغيرهم من الأصوات التي تكون وعيها في الحقبة الليبرالية، بالإضافة إلي كونه أحد أهم من ترجم وأبدع كتبا للفنون من حضارات الأمم، فقد كان - رحمه الله - مؤسسة قائمة بذاتها لتقديم الإبداع الجيد، في زمن جعل من الثقافة الرفيعة أحد اهتمامات رجل الشارع.