عز الدين نجيب: أسس البنية التحتية للثقافة المصرية التى نعيش عليها حتى الآن أسامة عفيفى: ظاهرة ثقافية من الصعب تكرارها جاءت احتفالية الدكتور ثروت عكاشة شديدة الثراء ورغم أنه أصبح غير قادرا فعليا على الحضور إلا أنه كان حاضرا بما قدمه للثقافة المصرية.. كان حاضرا على لسان محبيه الفنان التشكيلى عز الدين نجيب والكاتب الصحفى أسامة عفيفى.. اللذان شاركا فى الندوة. بدأ الفنان التشكيلى عز الدين نجيب كلمته بتوجيه التحية للشهداء الذين سقطوا فى ثورة يناير وتمنى أن تكون الثورة فاتحة إبداعية للفنون والحياة المصرية بوجه عام.. كما اعتذر عن عدم حضور الفنان الكبير الدكتور ثروت عكاشة نظراً لكبر سنه. وقال: يعتبر د. ثروت عكاشة من قادة التنوير فى مصر فى العصر الحديث وأحد واضعى أساس النهضة فى القرن العشرين بل ويزيد عنهم فى أنه صاحب مشروع خاص به تولى قيادته والإشراف عليه عندما كان وزير الثقافة من 1958 إلى 1961 ثم ترك الوزارة وعاد إليها عام 1966 ليخرج للمرة الثانية 1968 إلى مجمل السنوات التى شغل فيها منصب وزير الثقافة ست سنوات فى حياة المصريين لازالت قائمة حتى الآن على الرغم من مرور نصف قرن ولعل البعض يتساءل ما هو المشروع الثقافى. وأضاف: مشروعه هو حق الجماهير فى الثقافة بعد أن كانت تحتكرها العاصمة والنخبة المثقفة فباستثناء القاهرةوالإسكندرية لم يكن هناك معاهد أو مراكز أو قصور ثقافية فى مختلف المدن والمحافظات وكان الدكتور ثروت عكاشة لديه فلسفة أن تنتقل الثقافة من العاصمة إلى باقى المدن الأخرى. لقد أخذ على عاتقه – الكلام لعز الدين نجيب - بناء البنية التحتية للعمل الثقافى ومنها قصور الثقافة التى لم يخل منها إقليم من أقاليم مصر وشارك فى بناءها أعظم المعماريين المصريين وكان يرى أن قصر الثقافة يأخذ شكل القصر بكل ما فيه من أبهة، ولكن أبهة العلم والمعرفة فالدكتور ثروت عكاشة كان من الضباط الأحرار فى ثورة 23 يوليو وكان عزوفا عن المناصب واختار العمل بالثقافة لأنها الأقرب إلى نفسه. لقد زار عدد كبير من الدول الارستقراطية والإقطاعية التى حولت قصور الإقطاعيين إلى قصور ثقافية يستفيد منها الشعب ففعل ذلك كما بنى حوالى عشرة قصور ما بين الوجه البحرى والقبلى وهى تمثل الرئة الثقافية فى هذه الأماكن. ويستكمل الفنان عز الدين نجيب قائلا: لقد قاد حملة بناء المتاحف القومية ومنها متحف الفن الحديث والمتحف الرومانى وتجديد المتحف المصرى فالدكتور ثروت عكاشة آمن بدور التطور المجتمعى عن طريق البحث عن أصالته وحضارته... فكان مهتما بكل ما هو جديد فى الفن وكان مشهوراً ببناء المؤسسات الثقافية التعليمية كأكاديمية الفنون بالجيزة «البالية - سينما - مسرح - تمثيل - فنون شعبية» وكان لديه مشروع راقى جداً ولكن الظروف لم تسمح بإنشائه وهو مدينة الفنون بالهرم ومساحتها حوالى 16 فدان وكانت مخصصة لبناء مدينة الفنون متكاملة بما فيها الحرف والفنون الشعبية ومازالت أكاديمية الفنون تضخ كل عام متخصصين فى جميع مجالات الفنون. ومن مشاريعه الضخمة كما يشير عز الدين نجيب إحيائه للتراث المصرى القديم وكلنا نذكر حملته العالمية لإنقاذ معبد فيلة فى أسوان ونقله إلى أبوسمبل لأن بحيرة ناصر وبناء السد كانت ستغرق جميع آثار رمسيس الثانى وهو العمل الذى يعد إعجازا معماريا خاصة أن معبد أبوسمبل محفور داخل الجبل.. ولو نظرنا الآن لما حادث وما أنجز لوجدناه إعجازا فكيف يتم تفكيك المعبد قطعة قطعة ثم تركيبه مرة أخرى وبناء جبل صناعى بما فى ذلك قدس الأقداس وهو آخر جزء فى المعبد والذى فيه تمثال رمسيس الثانى حيث تسقط عليه الشمس فى 22 فبراير و22 أكتوبر يومى عيد ميلاده وعيد تتويجه على العرش وفى هذين اليومين تخترق الشمس جدار المعبد تدخل إلى قدس الأقداس وهى معجزة معمارية أيضا بكل المقاييس استطاع العلماء المصريين أن يتوصلوا إليها وفعلوها كما صنعها أجدادنا الفراعنة قديماً. وهذه المعجزة صنعها د. ثروت عكاشة فى حملة دولية بالتعاون مع منظمة اليونسكو وتم التبرع من جميع أنحاء العالم لإنقاذ معبد أبوسمبل وهى نظرة بعيدة للدكتور ثروت عكاشة تخاطب الخلود وتؤمن بالعبقرية المصرية القديمة. ومن بين ما قدمه ثروت عكاشة – الكلام لايزال على لسان عزالدين نجيب - تأسيس مبان للحرف التقليدية كمبنى الغورى وقصر المانسترلى وبيت السنارى فى السيدة زينب وهذه القصور التاريخية كانت خالية على عروشها فحولها د. ثروت عكاشة إلى ورش فنية تستلهم الفن التقليدى فى جمع بين شيوخ الصنعة وبين الفنانيين التشكيليين المعاصرين ولازالت بعض هذه المبانى تقوم بدورها التاريخى والحضارى والباقى طالته يد الإهمال. اهتم أيضاً د. ثروت عكاشة ببناء الفرق الفنية كالموسيقيين والشعبيين والكونسرفتوار والباليه و يجب أن نعرف أن فرق الكونسترفتوار لم تشهدها القاهرة من قبل إلا على يد د. ثروت عكاشة فكانت أغلب عروضه فى الإسكندرية باعتبارها ذات ثقافة متوسطية كذلك المسرح القومى ومؤسسات السينما والمسرح والفنون الشعبية باعتبار أن الدولة هى الراعى والممول لهذا النشاط وفوق هذا وذاك يحسب للدكتور ثروت عكاشة اهتمامه وتبنيه لشباب المبدعين وقد كنت واحد منهم فكنت مديرا لقصر ثقافة وعمرى 26 عاماً وهذا مالم يحدث إلا فى عهده فأين هذا الإيمان بالشباب اليوم!!. لقد كان الدكتور ثروت عكاشة صاحب فكرة تفرغ المبدع لكى يعكف على أعماله ولا يشتت نفسه فى الجهة التى يعمل بها وبين فنه فضلاً عن أنه مؤسس مشروع صندوق الرعاية للفنانين والأدباء وهو يختص بحالات المرض والعجز والوفاة وهو ضمانة مالية تحفظ للمبدع كرامته، وهو واجب أصيل للدولة. ويضرب عز مثالا على ذلك بقوله: منذ أسابيع قليلة توفى الناقد الأدبى عبد الرحمن أبوعوف ولم يجد أصدقائه قبر يواريه سوى مقابر الصدقة لكى نعرف فى أى عصر نعيش ويعيش الإبداع. أما عن حرية الرأى فيؤكد عز الدين نجيب أن د. ثروت عكاشة قد تبنى فكرة الحرية والإبداع فلم يدخل فنان السجن رائيه وهو ما يحسب له وقد كان الكاتب اليسارى الكبير محمود أمين العالم رئيساً لهيئة الكتاب وكذلك الفريد فرج رئيساً لهيئة المسرح بجوار كتيبة من البدعين فى مواضع السلطة سواء كانت تتفق مع النظام أم لا، فأين لنا الآن بهذا الفكر المستنير الذى لا يفرق بين يمينى ويسارى بين مسلم ومسيحى بين رجل وامرأة. أما عن الجانب الفكرى للدكتور ثروت عكاشة فيقول الناقد التشكيلى عز الدين نجيب: لقد اعتمد د. ثروت عكاشة على تأسيس ثقافة موسوعية للفنون تقوم على قاعدة معرفية عريضة بتاريخها وأصولها كالسينما والفن التشكيلى وكل جزء اختص بحقبة تاريخية أو فن من الفنون وكان أول جزأين للفن المصرى القديم والمنهج الذى عمل به هو التحليل المنهجى بلغة علمية رصينة ذات جماليات فأسلوبه يكاد يقترب إلى عالم الأدب مع حفاظه على جميع المعايير العلمية التى يتطلبها البحث الفنى الذى يقوم به والوصول إلى المراجع الكبرى ولا أجد مؤلف فى مصر قام بما قام به د. ثروت عكاشة من زيارة المتاحف فى معظم دول العالم. ويشير عز هنا إلى مسئولية الدولة فى نشر أعمال ثروت عكاشة قائلا: السلسلة التى أصدرها د. ثروت عكاشة هى مجموعة من الأجزاء تتكون من 15 جزء أصدرت هيئة الكتاب ثلاثة أجزاء فقط ولا يزيد ثمن الجزء عن عشرون جنيهاً أما باقى الأجزاء التى تم نشرها من دور النشر خاصة فيتجاوز سعر الجزء الواحد مائة جنيهاً، وإذا تم شراء المجموعة كاملة فتتجاوز الألفين جنيه أى أن الثقافة أصبحت للأثرياء فقط وهنا يجب أن يظهر دور الدولة فى الثقافة. أما الكاتب أسامة عفيفى فيرى أن د. ثروت عكاشة ظاهرة ثقافية بنت جيلها فلقد ولد عام 1921 وعاش شاباً فى الثلاثينات من القرن الماضى حيث كانت مصر تموج بجميع التيارات الثقافية والنهضة وقضايا المعرفة وقضايا الاستقلال الوطنى.. كان طه حسين قد كتب كتابه فى الشعر الجاهلى وحسين هيكل رواية زينب والفنان الرائد محمود مختار عمل تمثال نهضة مصر حتى أن ثروت عكاشة قال فى مذكراته أنه كان يقرأ فى مجلتى كل ما يصدر من أدب عالمى فى ذلك الوقت فتشكل وعى د. ثروت عكاشة فى هذا الجو المشبع بحب المعرفة المتطلع للنهضة كما قال أنه كان عندما يأتى إليه جمال عبدالناصر وعبدالحكيم عامر إلى البيت يستمعون إلى الموسيقى الكلاسيكية العالمية كما أنه يقول أنه نشأ فوجد تيارات ثقافية عديدة فأخذ من هذه المذاهب ما توافق معه بل وآمن أن الدولة لابد أن تكون دولة راعية لهذه الفنون، وكان يعشق شخصية عمر بن الخطاب وله كتاب مجهول عن البطولة عند جنكيز خان وطبعه عام 1951 على نفقته الخاصة. وحول الجانب الأكاديمى قال أسامة عفيفى: د. ثروت عكاشة على المستوى العسكرى درس الدراسات العليا فى فنون العسكرية ولكنه فى ذلك الوقت درس فى كلية الآداب قسم الترجمة والإعلام وكان زميله فى الدراسة قبل الثورة يوسف السباعى وهى معلومات لابد أن يعرفها شباب اليوم حتى يعرف أنه كان يجتهد قبل الثورة فأصبح مثقفا كبيرا.. ولم يصل لما وصل إليه بنفوذ الثورة بل بمجهوده الشخصى فقد كان يكتب المقالات فى جريدة المصرى فى الأدب والفنون منذ عام 1949 لأنه كان فى الجيش وممنوع من الكتابة فى مجال آخر وجريدة المصرى كان يكتب فيها كبار الكتاب فى ذلك الوقت كتوفيق الحكيم وغيره. وأضاف: عندما طلب منه الرئيس عبد الناصر أن يتولى رئاسة تحرير مجلة التحرير 1952 حتى 1953 جعل كل من يكتب فيها من التيار اليسارى القادر على نشر الثقافة بغض النظر عن انتمائه الأيديولوجى كذلك عمله كملحق عسكرى فى عدد كبير من الدول فبدأ يرتاد المسارح والمتاحف فى تلك الدول وكانت محاضرات الكوميدى فرانسيس والتى تضم كبار مثقفى العالم وتطبع فى نهاية العام فى كتاب يضم محاضرات هؤلاء الفلاسفة والشعراء ومحاضراتها للجمهور.. فى تلك الأثناء تعرف على عالم فى علم الجمال وهو عالم فرنسى فى فترة الخمسينيات وهو رينيه ويج - رائد فن الجمال فى أوروبا - الذى قدم نظرية توافقية بين أصالة الفن وتحديثه وهى نفس نظرية د. ثروت عكاشة فهو أستاذه الأول فى علم الجمال بل وصل به الأمر أن أصبح صديقه وأثر فى تكوينه ووعيه الجمالى وأهداه أسلوب الفن التحليلى التوصيفى بنقد موضوعى. هناك أيضاً «رينيه ماهيه» وكان أحد الفلاسفة الفرنسيين الذين آمن بمحو الأمية الثقافية وقدر له أن يتولى منظمة اليونسكو وهو الذى انشأ فى مدينة سرس الليان المصرية مركز محو الأمية وهناك تمثال للفنان أحمد عثمان يتصدر هذا المركز عبارة عن فلاحتان مصريتان. كذلك آمن «رينيه ماهيه» بثقافة المواطن العادى وحقه فى المعرفة ولقد تأثر به د. ثرت عكاشة وعن طريقه رينيه نجح عكاشة فى أن يأتى بالدعم من اليونسكو لإنقاذ آثار النوبة. أيضاً «أندريه مالرو» هذا الشاعر الفرنسى اليسارى والذى أصبح وزير الثقافة الفرنسى والذى تأثر به د. ثروت عكاشة وحدثت اتفاقيات بينهما منها مستنسخات اللوفر هنا فى القاهرة كما دعاه عكاشة إلى إلقاء محاضرات فى مصر ومعه العديد من المفكرين الفرنسيين مثل المفكر الكبير الفرنسى «سارتر» و«سيمون بوليفار». كذلك ربطت عكاشة علاقة قوية بأراجون، هذا الشاعر السيريالى المتمرد الذى كان ضد الذاتية المفردة وضد انسحاق ذات الفنان فى الواقعية الاشتراكية وكان توافقى ذا تجربة خاصة وهذا ما قام به د. ثروت عكاشة بنظرة توافقية فيها ليبرالية تحترم جميع التيارات والرؤى. د. ثروت عكاشة عندما تولى منصب وزارة الثقافة لأول مرة أسس البنية التحتية للثقافة المصرية وعمل أكاديمية كاملة للفنون وأتى بأبوبكر خيرت الذى صمم العمارة الموسيقية.. وأنشئ قاعات الاستماع الموسيقى وبنى أوبرا مصرية فقد كان يرى د. ثروت عكاشة أن مبنى الأوبرا القديمة هو مبنى سقيم على الطراز الإيطالى ومعرض للحريق فى أى وقت وما لا يعرفه أحد أنه وضع حجر الأساس لبناء أوبرا مصرية فى حديقة الحرية أمام مبنى الأوبرا الحالية عام 1957. واوكل تصميم هذا الأوبرا للموسيقى الدكتور أبو بكر خيرت كما دعم المكتبة الموسيقية لدار الأوبرا المصرية والذى كان اشتراكها الشهرى عشرة قروش وأتى بكبائن استماع من أوروبا، وهذه المكتبة نقلت إلى دار الكتب فى مخزن!! آلاف من الأسطوانات المهمة العالمية موجودة فى مخزن وكأن أى مواطن يستطيع أن يسمع الموسيقى العالمية بعشرة قروش فى عهد د. ثروت عكاشة والذى رحل عن الوزارة فتم إغلاقها فى عهد عبد القادر حاتم ثم أغلقت كما رويت. ويروى أسامة عفيفى واقعة مهمة وهى أن الرئيس جمال عبدالناصر عندما كلف د. ثروت عكاشة بالوزارة مرة ثانية كان نائباً لرئيس الوزراء ورئيساً للثقافة ومن الحكايات الطريفة التى رواها د. ثروت عكاشة فى هذا التكليف أن عبدالناصر أعطاه ملف يحتوى على مقالات للدكتور لويس عوض بعنوان «ثقافتنا بين الكم والكيف» لكى يقرأها قبل أن يضع خطته لتطوير الثقافة. وكان أول ما قام به د. ثروت عكاشة أن طبع هذه المقالات فى كتاب صدر عن الهيئة العامة للكتاب فى هذا الوقت. وأخيراً الدكتور ثروت عكاشة ظاهرة ثقافية متفردة له مكان خاصة فى تاريخ مصر، ويمكن بعد ثورة 25 يناير أن يتحقق حلمه من جديد وتتحول الثقافة إلى ثقافة الشعب والجمهور وعن سؤاله حول غياب شقيق د. ثروت عكاشة الدكتور أحمد عكاشة أجاب الفنان التشكيلى عز الدين نجيب أن د. أحمد عكاشة كان سيحزن من العدد القليل الذى حضر تكريم شقيقه فى المعرض وهو قريب من شقيقه ومن الثقافة. وحول سؤال آخر عن الفرق بين ثروت عكاشة وبين فاروق حسنى أجاب عز الدين نجيب فى كلمة واحدة الفرق بين فاروق حسنى وثرت عكاشة هى: الفرق بين المهرجانية والتأسيسية الثقافية.