في حياتنا الثقافية هيكل حي شامخ, كلما ظننته اكتمل عاد فاستعلي من جديد.. عمل يجمع بين جلال العمارة وحيوية الشجرة, فإذا كان للمعبد العظيم أن يمد غصونا وفروعا, وأن يورق ويخضر, وأن يزهر ويثمر فهو هذا المعبد, وإذا كان لشجرة أن تتسع وترتفع, وأن تكون جهات وزوايا ومداخل ومخارج وسقوفا وقاعات وأبراجا وشرفات, هذا العمل هو الشجرة.. هذا ما وصف به يوما الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي الدكتور ثروت عكاشة, بناء العقول والقلوب العظيم, الذي ازدهرت علي يديه قوة مصر الناعمة, برغم انكسار الوطن وشرخ الوجدان بفعل الهزيمة, ساعتها استجمع الفارس المفكر ذاته وقدرته مدفوعا بأنبل الدوافع وأشرفها.. حب الوطن..مصر..! في أواخر عام1958 فاجأ السفير الأمريكي بالقاهرة,برفقته مدير متحف المتروبوليتان, وزير الثقافة الدكتور ثروت عكاشة(1921-2012) بطلب غريب, هو شراء واحد أو اثنين من معابد النوبة المحكوم عليها بالغرق, بعد بناء السد العالي, فأبدي عكاشة دهشته وضيقه بأن يدور بخلد أحد أن تراث أسلافنا مما يباع ويشتري, وسارع بالقول, معاتبا: كان جديرا بمتحف المتروبوليتان أن يبادر بالعون العلمي لإنقاذ هذا التراث الإنساني, بدلا من التفكير في شرائه..!! كان هذا اللقاء القصير ذا مغزي عميق في نفس ثروت عكاشة, وسببا في قيادته أعظم ملحمة مصرية-عالمية لإنقاذ آثار النوبة, بوصفها تراثا ثقافيا مشتركا للإنسانية,فترك مكتبه بعده مباشرة, قاصدا أسوان متطلعا إلي معبدي أبوسمبل المنحوتين في جوف الجبل, متأملا آثار النوبة ومعابدها السبعة عشر, ومتخيلا المياه وقد ابتلعت تلك الآثار, فراوده حلم أسطوري بأن يدا عملاقة تغرف هذه المعابد الشامخة من مرقدها, وتصعد بها إلي قمم الجبال حولها, وتترك لمياه السد العالي مكانا تتماوج فيه علي هواها... هنا شعر عكاشة بأنه يطارد المستحيل, فظروف مصر المالية والتكنولوجية مستعصية و علاقتها السياسية بالغرب ضامرة, بعد تأميم القناة والعدوان الثلاثي, لكنه أصر علي يجعل من المستحيل ممكنا ومن الخاطر احتمالا, وسرعان ما قاد حملة مصرية دولية منسقة لإنقاذ هذه الاثار, قدمت اليونسكو تمويلا وخبرات فنية,وتكفلت مصر بجانب كبير من التكلفة, فقد كانت بين يدي تجربة تمس كرامتها وعزتها وتستنفر عراقتها, ومضت الأعمال برغم الصعاب الكبيرة, بقيادة الوزير الفارس, لأن ثورة23 يوليو التي أقامت السد العالي لم تشأ لهذا الجزء من حضارة الوطن أن يندثر أو أن يتخطفه ملك الموت, في زحمة انشغالها بهموم المصريين, وبعد أحد عشر عاما من العمل الشاق كللت جهود ثروت عكاشة وصحبه بالنجاح المذهل, يدفعه إليه إصرار علي حتمية الحفاظ للأجيال المقبلة, علي أثر من أعظم ما أنجزته أيدي آبائنا الأولين, أقاموه يوم كانت البشرية تتلمس طريقها بحثا عن مأوي أو مخدع تسكنه في كهوف الجبال,وكانت مصر تنحت للخلود معابد تسكن فيها الروح وتحيل الصخر إلي متحف للفن والجمال والفضائل. الشوق إلي ترويض المجهول والثورة الدائمة علي الممكن هما مفتاح شخصية ثروت عكاشة, فهو ابن سلاح الفرسان بالحربية المصرية مدرسة الوطنية ذات التقاليد الراسخة الأصيلة علي امتداد تاريخها, احد القادة الضباط الأحرار الذين حملوا أرواحهم علي أكفهم ليلة23 يوليو للقيام بهذه الثورة...ومع هذا لم يكن طرفا في النزاع علي السلطة التي لم تكن طموحه الأساسي, ودعا للديمقراطية وكان ضد تنحية الرئيس محمد نجيب, وآمن بمقولة فيلسوف السياسة وول ديورانت: إن الدولة خلقت من أجل الإنسان لا الإنسان من أجل الدولة, وفضل دائما ربط المشكلات السياسية بإطار أخلاقي, وفي مذكراته مذكراتي بين السياسة والثقافة يري أن يوليو خطت خطوات جادة نحو تنفيذ المبادئ الخمسة الأولي من أهدافها, وبذلت محاولات من الثوار أنفسهم لتحقيق هدفها السادس, وهو إقامة حياة ديمقراطية سليمة, لكن تيارا مضادا أقوي تمكن من إجهاض تلك المحاولات, فليس ثمة ما هو أنكي علي الحرية من ثورة ناجحة تنكص علي عقبيها!.. واعتبر الدكتور عكاشة أن عهد ثورة يوليو1952 انتهي بعد أربع سنوات, حين جري الاستفتاء علي دستور1956, حيث انبثق منه نظام سياسي يقوم علي مركزية السلطة وتجميعها في يد رئيس الجمهورية دون غيره,وبرغم اعترافه بأن حكم عبدالناصر كان فرديا تسلطيا, وأن بعض المحيطين به كانوا من ضعاف النفوس, فإن عكاشة يسهب في ذكر فضائل عبدالناصر, لأنه القوة الدافعة وراء ما نالته مصر الحديثة من وزن عالمي كبير, وما حدث فيها من تطور اقتصادي اجتماعي لا سبيل إلي إنكاره, فلقد أرسي قواعد جديدة للنهضة اجتماعيا وسياسيا وحضاريا...وكان نصيرا للفقراء وحرر الاقتصاد المصري من سيطرة رأس المال الأجنبي... ومآثره الجليلة سجلها التاريخ ولا ينكرها إلا جاحد مجحف مغرض, وما أخال عبدالناصر وسط ما أحاط به من شدائد غافلا عن قول أرسطو: ما خطر ببال متطلع إلي أن يقود أمته أنه سوف يعيش في رغد وهدوء, فالطريق إلي الزعامة مملوء بالأشواك, ويري النبيل ثروت عكاشة أن تكريس نظام ديمقراطي محفوف بالمعوقات والمصاعب إلا أنه يظل دائما السبيل الأسلم للوصول إلي بر الأمان, لأن المؤسسات الديمقراطية تؤدي دور الحجر الصحي الذي يكبح جماح السلطة المطلقة المزمن, وأن عبدالناصر فطن إلي ذلك في أواخر أيامه لكن العمر لم يمهله السير نحو الخلاص.. وبرغم خلافاته مع السادات وشعوره غير الودي تجاهه فإن عكاشة يلوم شلل المنتفعين والمتحولين الذين يتعصبون لهذا الحاكم صباحا ثم ينقلبون عليه في الظهيرة, وفي العشية يبيعون ولاءهم لآخر- هل يذكرنا القوم بمتحولي ثورة25 يناير- وما أشبه المشايعين لهذا وذاك بطوائف الخضر والزرق في مضمار السباق البيزنطي, فالتناقض بين, والاستفزاز متبادل, و التحدي قائم, والتصدي بجارح الكلام لا ينتهي, فما أولانا أن نتجاوز ما بيننا من خصومات وحسبنا نصف قرن صرفناه في هذا التنابذ أراد ثروت عكاشة بذاك القول لفت أنظار الشعب إلي ضرورة الالتفات إلي المصلحة المرسلة للأمة واجتناب المنافقين والمتحولين, والكف عما لا يجدي, وهي دعوة صالحة لكل زمان, لاسيما في زمننا هذا..! قضي فارسنا عمرا تحت ظلال السلاح, لكنه لم يحب السياسة فهي تخرج من بين صدأ ودم, أما هو فيهوي الوضوح والشفافية, وتلك سمة المفكر المتأمل والفنان المرهف الذي اتخذ من عقله وقلبه منصة إطلاق لخير الإنسانية, قوة هائمة تبحث عن تشكلها من خلال صور الإبداع, وإرادة حياة تبحث عن روحها من خلال ضروب العطاء الثقافي اللامحدود, شوق جارف إلي ترويض المجهول كما حدث في عملية إنقاذ معابد النوبة, التي اعترف له العالم أجمع بفضله, حينما طلب منه الإشراف علي لجنتي إنقاذ البندقية وفلورنسا, وكما انتزع تراثا من يد الفناء, فقد ضفر بين الأصالة والمعاصرة في المشهد الثقافي المصري والعربي علي نحو غير مسبوق, وجمع بين حفظ التراث الثقافي والموروثات وبين الفنون الرفيعة التي نحتاجها لنتواصل مع العالم, لحد أن العين تسمع والأذن تري- كما عنون موسوعته الفنية- وقال عنه رجاء النقاش: ثروت عكاشة رجل له صوت وضوء,أما الصوت فنسمعه في الكونسرفتوار وفرقة الموسيقي العربية والأوركسترا السيمفوني وفرق الفنون الشعبية, وفي غيرها من المؤسسات الرفيعة التي أنشأها, بل أنجبها هذا الرجل, وسوف تبقي ما بقيت مصر, وأما الضوء فنحن نراه كل مساء مع آثارنا التي عاشت في الظلام آلافا من الليالي بعد آلاف, حتي جاء ثروت عكاشة بالنور, فأصبحت مشرقة علي الدوام, عبر الصوت والضوء بالهرم والقلعة والكرنك. كلنا نعرفه, مصريين وعربا,كل من قرأ كتابا جميلا أو سمع لحنا ممتعا, أو شاهد رقصة بالية رفيعة أو تراث شعبي, أو دخل أحد معارض الفنون علي اختلافها, أو وقف أمام معابد أبي سمبل, أو شاهد فيلما سينمائيا بسحرالمومياء يرتفع بالسينما المصرية إلي مستوي العصر, أو شاهد مسرحية أبدعها ممثلون تخرجوا في معاهد العلم والأكاديميات الراقية التي أقامها, كل هؤلاء يعرفون ثروت عكاشة, لأنه هو الذي صنع التربة الثقافية الجديدة, وأتي لها بالطمي والبذور الصالحة ورعاها بالجهد الدائب والحزم العظيم, إيمانا منه ويقينا بأن أي تغيير لا قيمة له, إذا لم يكن للوطن عقل مثقف وذوق جميل... إنه رجل لا يرضي بأنصاف الحلول ومن ثم نشر المسارح ودور السينما والفرق الفنية في أرض الكنانة, فأينعت ثمارها الحلوة, وأنشأ أهم دار نشر, الهيئة العامة للكتاب لتكون شريانا يغذي نهم القراءة لدي شعب فنان عاشق لها, يبحث عن فرصة للخروج من أسر التخلف والتبعية, وأقام معرض القاهرة الدولي للكتاب, ودار الكتب والوثائق القومية الجديدة, والمجلات والمعاهد الثقافية,ومتحفي مراكب الشمس ومحمود مختار, وغرس في مدن مصر وقراها ونجوعها قصور الثقافة وبيوتها كي تكون مفاعلات إبداعية لتفريخ طاقات الفنانين والأدباء, ولترتقي بوعي المصريين, وكسر احتكار العاصمة النشاط الثقافي بصوره المختلفة, بوصفه حقا وحاجة أساسية للجماهير العريضة, وليس سلعة لمن يقدر علي ثمنها, وقد توج ذلك بنظام التفرغ للفن والأدب الذي يعد واحدا من أهم مشروعات الرعاية الحكومية للإبداع في العالم, وقد صاحبه تخصيص بيوت أثرية إسلامية كبيوت إبداع لهؤلاء المتفرغين, مثل وكالة الغوري وبيت السناري ثم قصر المانسترلي والمسافر خانة وغيرها, وقد يقال إن نظام التفرغ كان أداة لتدجين المثقفين وإدخالهم في بيت طاعة النظام الحاكم,لكن في هذا القول من الخفة أكثر مما فيه من التثبت بالنظر للاستقلالية الذاتية للمثقف الحقيقي وللنتائج البارزة التي حققها بعض المبدعين المتفرغين, دون أن يخسروا استقلاليتهم, علي الأقل زمن ثروت عكاشة... إن الدكتور ثروت عكاشة هو بحق الوجه الرائق الأنصع لثورة يوليو52, وصاحب الإنجاز الأبرز في سجلها الحافل, بطل الثورة الثقافية الشاملة في مصر والعالم العربي, لأنه أدرك مبكرا إشعاع قوة مصر الناعمة باعتبارها مهد الحضارة وفجر الضمير الإنساني والدولة الأعظم ثقافيا, قبل أن يأتي-في عهود لاحقة-من يغرقها بماء مالح ويخنقها بالغبار الأسود ويتحالف عليها فساد الأمكنة والأزمنة لتتقوض البني الثقافية وتضمر روح الإبداع, ويتحول إلي نوع من التسلية الرخيصة إلا قليلا. في كل حياته كان ثروت عكاشة فارسا نبيلا, ومفكرا كبيرا, ووزيرا تاريخيا للثقافة,و سياسيا متوازنا ونزيها,نفتقده اليوم في فترة تنحدر فيها قيم كثيرة في حياتنا..شكلت أعماله وكتاباته رحلات ثقافية ممتعة عبر الحضارات والفنون الرفيعة نري ونسمع أرق ما أبدعه الإنسان في كل زمان ومكان, عطاء زاخرلا يمحوه كر العشية والبكور, ولا يدور بخيالنا-ونحن نوسده الثري-أننا غيبناه في باطن الأرض, بل نحس أننا أقمنا له نصبا عاليا, من أعماله الجليلة وعلمه الغزير وفروسيته الطاغية, في قلوبنا سيبقي شامخا خالدا, بقدر ما أعطي..!!