مع سكون الليل, حتي أول ضوء فجر, تملأ النفس والفضاء عبيرا بحديثها.. تلملم الحكايات.. تدندن الشعر.. أو تعزف علي الأوتار. . إنها شهرزاد سيدة الحكايات والسحر والإلهام. جاءت لتحرر بنات جنسها من موت محتوم علي يد الملك شهريار الذي هزمته بالعقل والمعرفة. ليس عجيبا أن تخرج شهرزاد من بلاد الشرق!.. بلاد الأنبياء والحكماء.. بلاد هزمت بالكلمة السيف وقهرت بها طغاة الأرض. عندما فاز الروائي الشهير جابرييل جارثيا ماركيز بجائزة نوبل في الأدب, سألوه عن أهم كتاب قرأه في حياته وأوحي له باسلوبه المميز في الواقعية السحرية.. فأجاب: إنها ألف ليلة وليلة. أمام الولع الأوروبي بهذا الموروث الثقافي, يرجع المستشرق الفرنسي ريشار جاكمون, وهو أستاذ اللغة والأدب العربي بجامعة اكس- آن- بروفانس, الفضل في إنتشار' ألف ليلة' في أوروبا إلي' أنطوان جالان' الذي عثر علي مخطوطات منها أثناء عمله كمساعد للسفير الفرنسي لدي الدولة العثمانية.. وقد شغف بما تضمنته, فنقلها إلي اللغة الفرنسية عام..1704 ليفتح بذلك الباب علي مصراعيه لترجمة الليالي إلي اللغات الأوروبية الأخري: ترجمها إلي الإنجليزية المستشرق إدوارد وليم لين(1838), ثم ترجمت إلي الأسبانية(1852), وإلي الألمانية والإيطالية والروسية. ويضيف جاكمون:' عندما قام جالان بالترجمة فإنه لم يلتزم بالنص.. بل وضع نفسه في موقع الراوي, وأضاف تفاصيل لم تكن موجوده منذ البداية. كذلك فعل كل من قام بترجمتها.. لذا نجد بعض القصص مثل' علاء الدين والمصباح السحري' لا أثر لها في المخطوطات الأصلية'. ولع أوروبي.. وتجاهل عربي غزت' شهرزاد' قلوب الأوروبيين بحكاياتها, فألهمت الأدباء والشعراء والموسيقيين ورجال المسرح والسينما في العالم.. من بوكاتشو, وفولتير, وديدرو, وشكسبير في مجال الإبداع الأدبي والمسرحي, إلي كاي نيلسن, وبول إيميل ديتوش في الفنون التشكيلية.. مرورا برافيل في الموسيقي السيمفونية, وريمسكي كورساكوف في الباليه, وبازوليني وجاك بيكر وريشارد والاس في السينما. بينما كان العالم يحتفي بها, لم يكترث العرب بهذا الموروث الثقافي!!.. بل إن العرب القدامي رأوا فيها مجرد حكايات شعبية لا ترقي إلي مستوي الأدب. فهي في نظر ابن النديم مثلا' كتاب غث بارد الحديث تلوكه ألسنة العامة'. من جانبه, يفسر الكاتب والروائي جمال الغيطاني هذه الظاهرة, قائلا:' إن العرب يعترفون ويفتخرون بكل ما له نسب وأصل. وعدم اهتمامهم بها يرجع- ربما- لأنها ليس لها مؤلف معروف. بالإضافة إلي أنها تجسد عمل إبداعي, اخترعه الخيال الجمعي ضد كل المحرمات, وهي بالتالي لا تتضمن أي محاذير. راحت تطرق مناطق غير تقليدية مثل' الجنس'.. تلك المناطق لم تكن تطرح في الأدب الرسمي من قبل. حتي أن البعض كان يتعامل معها علي اعتبار أنها كتاب ممنوع!.. يقرأ سرا'. كما يشير الغيطاني إلي أن الشرق يغازل خيال المغامرين والباحثين عن الملذات والمتعة والإثارة.. إنسان الغرب يأتي ليبحث عن الرغبة والخرافات التي استمتع بالقراءة عنها لما يدور داخل القصور من حياة الترف, والحريم, والنزوات, وقصص الجن والدجالين... في المقابل, يرجع د. رمضان بسطويسي أستاذ الفلسفة بجامعة عين شمس اهتمام الغرب ب'ألف ليلة وليلة' إلي أن الإنسان الغربي مهما بلغ من العلم والتقدم في جميع المجالات, فإنه يفتقد اكتشاف المعني الحقيقي لقيمة الحياة. يظل الأفق الروحي لدي' الغربي' خاويا. لذا, يحرص عادة الأوروبيين في آخر العمر علي السفر إلي الشرق والارتحال عبر حدوده, بحثا عن القيمة والمعني والبعد الإنساني. كما أن' السحر' يجعل الإنسان لا يقف عند حدوده التي تشعره بالعجز. لم يكن السحر في' ألف ليلة' أداة للسيطرة علي الكون بالتنجيم والخرافات, بقدر ما كان امتداد للخيال ومحاولة لتجاوز العجز وتحدي غير الممكن والمستحيل. في هذا السياق, يرفض ريشار جاكمون- بشدة- فكرة إرتباط هذا العمل بالشرق وحده.. مؤكدا أنها تعد نتاج تراث إنساني مشترك.. فالتاريخ ما هو إلا علاقات متبادلة وتراث مشترك بين الشعوب والحضارات المختلفة. إذا نظرنا إلي رواية' دون كيشوت' مثلا التي كتبها الروائي الأسباني سيرفانتس سنجد انها تراث مشترك يجمع الحضارة الإسلامية والمسيحية معا. إعمال العقل أنجبت' شهرزاد' للملك ثلاثة أولاد في ألف ليلة قضتها في قصره.. يشيد هنا جمال الغيطاني بالحكاءة البارعة التي أنقذت حياتها وأعادت إلي الملك المتعطش للدماء صوابه..' لا شك أنها قهرت شهريار بالحكمة والأنوثة والذكاء, وأكدت فكرة أن المرأة ليست مجرد( جسد) فحسب. بل إنها استطاعت أن تنجو بحياتها في مقابل الحكي'. وفقا له, إن' شهرزاد' تعبر عن المرأة في العالم بكامله, وإن هذا الموروث الثقافي أعلي من شأنها ومنحها المكانة التي تستحقها كإنسانة نجحت في ترويض رجل ذي قلب متحجر بالعقل والحكمة. بينما يري د. رمضان بسطويسي أن شهرزاد' الشرقية' تظل ملهمة للمرأة في الغرب حيث حصلت علي مكانتها وحقوقها قبل المرأة الغربية.. ولنا في هدي شعراوي وملك حفني ناصف قدوة حسنة. ويستطرد قائلا:' شهرزاد هي وحدة تعبر عن متعدد, بمعني أنها تعد نموذجا كبيرا لمجموعة صور للمرأة الشرقية بكل صفاتها الإيجابية والسلبية. كانت تروي قصصا- تكتمل عبر الليالي- مليئة بالإثارة والدهشة, معبأة برؤي وأفكار جديدة.. فكان إعمال العقل والثقافة والمعرفة طوق نجاة لها. لقد حجبنا' ألف ليلة' بسبب التفسير الجامد لها وإسقاط الأحكام الجاهزة عليها, دون أن ننظر إلي البعد الإنساني فيها. ربما تتضمن جانب غريزي.. لكن الدين لم يمنع الغريزة وإنما قام بتنظيمها'.. يشير د. رمضان إلي أن الدين في' ألف ليلة وليلة' كان حاضرا بدون سيطره أو توجيه, في تناغم بين الإنسان والعالم.. ويضيف: إذا كان جوهر التجربة الدينية هو اكتشاف العالم من جديد وإعادة قراءة الأشياء حيث كان النبي يرسل إلي الأمة ليخرج الناس من عبادتهم التقليدية.. فإن ذلك يعني أن' التقليدية' ضد جوهر التجربة الدينية. إن أزمتنا اليوم تكمن في الجهل وضيق الأفق وعدم وجود قدرة علي إكتشاف الحياة.. وجميعها أمور تؤدي إلي الهلاك. فعادة ما ينتصر الإنسان الذي يمتلك المعرفة والعلم, من يمتلك القدرة علي إعادة الإكتشاف, ويتحلي بالأمل. لا شك أن أجدادنا كانوا قادرين علي الإكتشاف دون خوف.. بينما نعاني نحن اليوم من المحاذير التي تفرض علي التقويل بما يعوق عملية الإكتشاف. لكن الغلبة للعلم.. والجهل إلي زوال.