موضوع القيم مجال شاسع للاجتهادات العلمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية, بالإضافة إلي تعدد أنساق القيم بحسب الدول والأنظمة السياسية والمجتمعات. وإذا كان يمكن القول نتيجة للعولمة من جانب, وتحول النظام العالمي إلي مجتمع عالمي من جانب آخر نتيجة الثورة الاتصالية الكبري أن هناك تبلورا لنسق عالمي للقيم, إلا أن هناك مما لاشك فيه قيما ثقافية محلية تسود مجتمعات بعينها, تأثرا بثقافات لها خصوصية تميزها عن باقي الثقافات. ولنلق نظرة طائرة علي موضوع القيم بشكل عام, قبل أن نتحدث بالتفصيل عن القيم الاجتماعية المنهارة في المجتمع المصري, وكيفية تأسيس قيم إيجابية بديلا عنها تساعد المواطن المصري علي أن تزدهر شخصيته الإنسانية. غني عن البيان أن التحول الأساسي في مجال القيم العالمية حدث أساسا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية عام1945, وبعد تأسيس هيئة الأممالمتحدة لكي تقود النظام العالمي في إطار قيم السلام بعد نبذ الحرب كآلية لحل الصراعات بين الشعوب, وفي ضوء أهمية تحقيق الأمن الإنساني للشعوب وتحريرها من الاستعمار, وكل صور الهيمنة الأجنبية, وذلك بتوسيع نطاق البرامج الإنمائية للنهوض بالطبقات الفقيرة. وأصبحت شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان ذات طابع عالمي, مما أدي إلي ثورات الشعوب علي الأنظمة الشمولية التي بلغت ذراها مع انهيار الاتحاد السوفيتي وغيره من النظم الاستبدادية, والانتقال في إطار الموجة الثالثة للديمقراطية بتعبير المفكر السياسي الأمريكي صموئيل هنتنجتون من الشمولية إلي الليبرالية. وتزعمت الولاياتالمتحدةالأمريكية العالم بعد اختفاء المنافس التاريخي وهو الاتحاد السوفيتي, وتحول النظام العالمي ليصبح نظاما أحادي القطبية, وعينت هذه الدولة الكبري نفسها باعتبارها المدافعة الأولي عن حقوق الإنسان في العالم, لدرجة أن الكونجرس أصدر تشريعا بموجبه تلتزم وزارة الخارجية الأمريكية بإعداد تقرير سنوي عن حالات خرق حقوق الإنسان بواسطة الدول المختلفة يرفع لرئيس الجمهورية الأمريكية ليوقع ما يراه مناسبا من عقوبات علي الدول المخالفة! غير أن الدولة الأمريكية التي نصبت نفسها باعتبارها السلطة القضائية العالمية, والتي تملك حق اتهام الدول بخرق حقوق الإنسان, بل وعقابها, مارست هي نفسها أخطر حالات خرق حقوق الإنسان, سواء في أفغانستان بعد11 سبتمبر, أو في العراق بعد الغزو الأمريكي غير المشروع له, أو في تعاملها مع المتهمين بالإرهاب, والمعتقلين في قاعدة جوانتانامو, وتبلغ المهزلة ذراها في كون الكونجرس الأمريكي ناقش مرات أدوات تعذيب المتهمين بالإرهاب, وأيها يعد مشروعا, وأيها غير مشروع! وبلغت ظاهرة ازدواجية المعايير الأخلاقية أقصي آمادها في التحيز الأمريكي الصارخ للدولة الإسرائيلية العنصرية, التي تمارس كل يوم خرق حقوق الشعب الفلسطيني. وهكذا تظهر من خلال المثال السابق الفجوة الكبري في مجال القيم عموما بين القيم الإيجابية المعلنة, والقيم الفعلية المطبقة, مما يجعلنا نشير إلي ظاهرة ازدواجية المعايير الأخلاقية, باعتبارها تكاد تكون أخطر مشكلات ترسيخ القيم الإيجابية. وإذا انتقلنا من مجال سياسات الدول إلي ممارسات الأنظمة السياسية العربية, لوجدناها جميعا بلا استثناء تعلن أنها تحترم قيم الحرية السياسية, وحقوق الإنسان, وتسعي لتحقيق العدالة الاجتماعية. غير أننا لو درسنا ممارسات هذه النظم ومن بينها النظام السياسي المصري في ظل الرئيس السابق مبارك لاكتشفنا أنها من خلال ظاهرة ازدواجية المعايير اعتدت اعتداء صريحا علي الحرية السياسية بممارستها الاستبدادية, وقهرها للخصوم السياسيين, وإصدار أحكام ملفقة ضدهم, أو حتي اعتقالهم دون العرض علي أي محكمة, ومن جهة أخري فإنه من خلال الفساد المنظم الذي مارسته النخب السياسية الحاكمة, تم الاعتداء علي حقوق الإنسان بشكل خطير. فساد الأنظمة السياسية كما أشرنا هو الجذر الحقيقي لفساد الجماعات الاجتماعية, وعدد كبير من المواطنين, فهؤلاء المواطنون الذين تركوا نهبا للأمية والفقر والفاقة والبطالة, وانعدام آفاق الأمل في مستقبل إنساني حقيقي, من المنطقي أن تتدهور القيم التي تتحكم في سلوكهم ويلجأون إلي تبرير كل أساليب الانحراف التي يمارسونها, بعبارة أخري في البدء كانت القيم الأساسية التي ينطلق منها النظام السياسي في أي بلد, إن كانت هذه القيم تركز حقا علي الحرية السياسية, والعدالة الاجتماعية في إطار من تفعيل حقيقي لمبدأ المواطنة, حيث لا تتميز بين أي مواطن أو آخر علي أساس الجنس, أو الدين. وإذا كان النظام يعتمد علي استراتيجية توسيع آفاق الحياة, بمعني إعطاء المواطنين حقهم المشروع في التعليم, والصحة, والعمل, والارتقاء الوظيفي بغير محسوبية أو واسطة, وفي ضوء تكافؤ الفرص, فإن ذلك لابد أن يترك آثاره الإيجابية الخيرة علي مجمل القيم الاجتماعية في الممارسة علي وجه الخصوص. ليس ذلك فقط, بل لابد أن تكون النخب السياسية الحاكمة نموذجا رفيعا للقدوة الطيبة, خصوصا فيما يتعلق بالقبول الكامل لمبدأ تداول السلطة, وفي التمسك بالأخلاقيات الرفيعة من زاوية إعلاء المصلحة العامة علي المصلحة الخاصة, والنزاهة كل هذه القيم تعد داعمة للسلوك الإيجابي الذي ينبغي للجماهير العريضة أن تسلكه إذا ما أرادت حقا أن تنهض ببلدها في إطار احترام حقوق الإنسان. خلاصة ما نريد التركيز عليه هو أهمية تأسيس نظام سياسي ديمقراطي إنساني تنهض قيمه علي خدمة الجماهير العريضة, وليس القلة الاجتماعية المترفة. وهنا تبدأ الرحلة الشاقة الخاصة بتأسيس قيم إيجابية جديدة لمجتمع مصري جديد, لتحقيق شعارات ثورة25 يناير عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية. ولا يمكن لهذه الشعارات أن تتحقق في الواقع بغير توافق سياسي بين السلطة الحاكمة, وتيارات المعارضة, في ضوء مبدأ أساسي هو أن مصلحة الوطن ينبغي أن تعلو علي المصالح الفئوية, أو المصالح الفردية. لمزيد من مقالات السيد يسين