عروض وثائقية وشهادات حية من أبطال أكتوبر بالندوة التثقيفية ال42 للقوات المسلحة    رئيس جامعة بنها يتفقد المشروعات الإنشائية الجديدة ويعلن إنشاء متحف    لماذا يعد الاعتداء على المال العام أشد حرمة؟.. متحدث وزارة الأوقاف يوضح    أسعار الأسماك بسوق العبور اليوم الأحد 19 أكتوبر 2025    54.3 % زيادة في أسعار الذهب منذ بداية 2025    هام من التموين بشأن أسعار السلع والتلاعب فيها    مؤتمر جامعة القاهرة الدولي للذكاء الاصطناعي يشعل منظومة ابتكار الذكاء الاصطناعي    أسعار مواد البناء اليوم الأحد 19 أكتوبر 2025    إزالة 393 حالة تعدٍ على الأراضي الزراعية وأملاك الدولة بالمنيا    وزير الخارجية الباكستاني يرحب باتفاق وقف إطلاق النار مع أفغانستان    السيسي: إعادة الإعمار بعد النزاعات أولوية لتحقيق السلام والتنمية في إفريقيا    إطلاق قافلة زاد العزة ال53 إلى غزة بحمولة 8500 طن مساعدات    بوتين اشترط خلال اتصاله مع ترامب تسليم أوكرانيا أراضٍ رئيسية لإنهاء الحرب    وصول بعثة الأهلي إلى مصر عقب الفوز على بطل بوروندي (صور)    في نهائي مونديال الشباب 2025 .. منتخب المغرب يسعي لتحقيق إنجاز تاريخي علي حساب الأرجنتين    خاص.. أول تعليق من والد خوان بيزيرا على دعم جمهور الزمالك في مباراة ديكيداها بكأس الكونفدرالية    حالة الطقس في السعودية اليوم الأحد.. أجواء مستقرة نسبيا    دفن جثة شخص لقي مصرعه في حادث تصادم بالنزهة    دون خسائر بشرية.. السيطرة على حريق مخلفات زراعية بمدينة قها في القليوبية    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاحد 19-10-2025 في محافظة الأقصر    «الصحة» توقع وثيقة اعتماد استراتيجية التعاون القطري مع منظمة الصحة العالمية 2024–2028    متحدث الصحة: مبادرة صحة الرئة قدمت أكثر من 55 ألف خدمة للمواطنين    أمل جديد .. طرح أول لقاح يحمى من الإيدز بنسبة 100% يؤخذ مرة كل شهرين    «الرعاية الصحية» تبحث مع «المستشفيات العربية» التعاون في مجالات الذكاء الاصطناعي    عمرو الحديدي: الشيبي وماييلي لن يرفضا عرضًا من الأهلي    حكم الوضوء قبل النوم والطعام ومعاودة الجماع.. دار الإفتاء توضح رأي الشرع بالتفصيل    كولومبيا تتهم الولايات المتحدة بانتهاك مجالها البحري وقتل صياد    الأمم المتحدة تطلق عملية واسعة النطاق لإزالة الأنقاض فى غزة    أطول تلاتة في الجونة.. احمد مجدي يمازح أحمد السعدني وخالد سليم    دعاء الفجر| اللهم جبرًا يتعجب له أهل الأرض وأهل السماء    نقيب الصحفيين: بلاغ لوزير الداخلية ووقائع التحقيق مع الزميل محمد طاهر «انتهاك صريح لقانون النقابة»    مي عمر تغسل ماضيها في عملها الجديد غسيل ومكوى المقرر عرضه في رمضان 2026    أحمد سعد يغادر إلى ألمانيا بطائرته الخاصة استعدادًا لحفله المنتظر    «حظهم ماتش الأهلي جه بدري».. شيكابالا يُعلق على خروج بيراميدز من كبوته    «العمل العربية» تشارك في الدورة ال72 للجنة الإقليمية بالصحة العالمية    وزارة السياحة والآثار تنفي التقدّم ببلاغ ضد أحد الصحفيين    شبانة: أداء اليمين أمام مجلس الشيوخ مسئولية لخدمة الوطن والمواطن    التعليم توضح الفئات المستفيدة من أجهزة التابلت 2025-2026.. من هم؟ (إجراءات وضوابط التسليم)    عملوها الرجالة.. منتخب مصر تتوج بكأس العالم للكرة الطائرة جلوس    نتنياهو: الحرب ستنتهي بعد تنفيذ المرحلة الثانية بما يشمل نزع سلاح حماس    مصرع عروسين اختناقًا بالغاز داخل شقتهما ليلة الزفاف بمدينة بدر    أحمد ربيع: نحاول عمل كل شيء لإسعاد جماهير الزمالك    الهداف التاريخي.. ماذا قدم محمد صلاح أمام مانشستر يونايتد قبل قمة اليوم؟    100 فكرة انتخابية لكتابة برنامج حقيقي يخدم الوطن    وائل جسار: فخور بوجودي في مصر الحبيبة وتحية كبيرة للجيش المصري    لا تتردد في استخدام حدسك.. حظ برج الدلو اليوم 19 أكتوبر    منة شلبي: أنا هاوية بأجر محترف وورثت التسامح عن أمي    ياسر جلال: أقسم بالله السيسي ومعاونوه ناس بتحب البلد بجد وهذا موقف الرئيس من تقديم شخصيته في الاختيار    «زي النهارده».. توقيع اتفاقية الجلاء 19 أكتوبر 1954    بعد هبوط الأخضر بالبنوك.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الأحد 19-10-2025    سيتغاضى عنها الشركاء الغربيون.. مراقبون: تمثيل كيان العدو بجثامين الأسرى والشهداء جريمة حرب    محمود سعد يكشف دعاء السيدة نفيسة لفك الكرب: جاءتني الألطاف تسعى بالفرج    رابط المكتبة الإلكترونية لوزارة التعليم 2025-2026.. فيديوهات وتقييمات وكتب دراسية في مكان واحد    تفاصيل محاكمة المتهمين في قضية خلية مدينة نصر    إصابة 10 أشخاص بينهم أطفال في هجوم كلب مسعور بقرية سيلا في الفيوم    المشدد 15 سنة لمتهمين بحيازة مخدر الحشيش في الإسكندرية    غضب ومشادات بسبب رفع «الأجرة» أعلى من النسب المقررة    مواقيت الصلاة اليوم السبت 18 أكتوبر 2025 في محافظة المنيا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



طوغان: سعد زغلول فؤاد .. نصير الحرية .. وضيف المعتقلات الدائم!
نشر في الأهرام اليومي يوم 09 - 05 - 2013

أحمد طوغان هو شيخ رسامي الكاريكاتير 87 عاما أطال الله في عمره يكتب هذه السلسلة عن الشخصيات التي شغلت حيزا في وجدانه وخزانة ذكرياته التي يفتحها لملحق الجمعة بالأهرام يتناول فيها الكواليس التي عاصرها عبر مشواره الذي يمتد لأكثر من65 عاما..
وتأتي أهمية هذا السرد الذاتي إلي كونه ليس مجرد حكي بقدر ما هو تأريخ وتسجيل لأحداث غنية بالمعلومات والأسرار ولكن غفلها التاريخ كما يحدث عادة وأسقطها من ذاكرته الرسمية, وكما يفعل رسام الكاريكاتير فهو لايرسم الواقع ولكن تأثير الواقع عليه... كذلك كتب طوغان عن هذه الشخصيات بصدق وحب.
أعود إلي نماذج ممن عرفتهم في حياتي منهم( سعد زغلول فؤاد) فهو نموذج فريد من الناس, وهب نفسه للحرية فقضي أغلب سنوات عمره في السجون والمعتقلات!.. عشق نصرة الحق ودفع الكثير في الدفاع عنه وفشل في الحصول علي حقه هو!.. كان احتماله وتماسكه ومقاومته مضرب الأمثال ولكن الزمن والظروف بعد جهد جهيد تمكنا منه!.. كان دائم التفاؤل رنان الضحكة فاقع النكتة محبا للمرح والحياة ولكن الظلم والإحباط والظروف انتصروا عليه!.. أول مرة التقيت فيها بسعد زغلول فؤاد كانت في منزل الفريق المتقاعد عزيز المصري باشا الذي كان في حي الزيتون بالقاهرة!
وعندما تصدي عزيز المصري الذي كان مفتشا عاما للجيش للبعثة الإنجليزية التي كانت تتدخل في شئون البلاد فأحالوه للمعاش, وسكن في حي الزيتون الذي كنت أتردد عليه وفيه كان لقائي الأول مع سعد زغلول فؤاد!
كان اليوم يوافق عيد ميلاد سعد زغلول وكان الحضور وجيه أباظة وحسن عزت وخالد محيي الدين وأنور السادات, وفي عيد ميلاد سعد كانت هدية عزيز المصري لسعد.. مسدس!
من يوم لقائي بسعد انعقدت بيننا صداقة دامت إلي أن وافاه الأجل, وحياتي معه كانت مثيرة! وقصة حياة سعد زغلول فؤاد تستحق روايتها: وهب نفسه للحرية فقضي معظم حياته في السجون بأنحاء الوطن العربي من أقصاه إلي أدناه!
في المغرب أمسكوا به ووضعوه في السجن بتهمة محاولة قتل الملك الحسن الثاني, وحكموا عليه بالإعدام وأنقذته الصدفة!
وفي مصر وبعد قيام ثورة يوليو وفي اللحظة التي أبعدوا فيها اللواء محمد نجيب عن السلطة, كانت هي نفس اللحظة التي قبضوا فيها علي سعد وأودعوه في معتقل القلعة!
وفي العراق ألقوا به في السجن وقالت الإشاعات أنهم سقوه السم, ووقع صريعا بين الحياة والموت; وفي فرنسا أخرجوا السم من جسمه إلي أن عاش وكتبت له الحياة!
.......................
.......................
بدأت حياة سعد زغلول فؤاد عندما كان في السنة السادسة من عمره يوم أن رفع قامته الصغيرة وأطل من شرفة مسكنه في بني سويف ووجد عددا من عربات الكارو تحمل مجموعة من الناس جرحي كانوا بين متظاهرين يرحبون بزيارة مصطفي النحاس باشا لمدينة بني سويف, أيامها كان النحاس يقود المعارضة ضد حكومة إسماعيل صدقي باشا التي أمرت بإطلاق الرصاص علي المتظاهرين, ووقع قتلي وجرحي كان من بينهم شيخ عجوز هو عم حسنين بائع الحلوي والسميط للأطفال والذي كان الطفل سعد من زبائنه الدائمين, وكانت نقطة تحول في حياته وفي عام1933 عندما دخل المدرسة الابتدائية وقف أمام مظاهرة للتلاميذ تهتف بسقوط الحكومة وطرد الاحتلال وإعلان الاستقلال التام, و( يسقط هور ابن الطور)! وكان صمويل هور أيامها وزيرا لخارجية بريطانيا, دخل سعد في الزحمة واعتلي كرسي وألقي في الجمع خطبة حماسية لفتت إليه الأنظار وعندما فتشوا عنه كان قد زاغ بين التلاميذ!
كان سعد زغلول فؤاد إلي جانب دراسته يمارس العمل الصحفي وكان أفراد الغرفة رقم(8) بجريدة الجمهور المصري وعرف أن النحاس باشا مسافر بالقطار إلي الإسكندرية فذهب وسأله كصحفي عن الخطوة التالية بعد إلغاء المعاهدة فقال النحاس: الكلمة الآن للشعب.
الكلمة الآن للشعب.!
وفي اليوم التالي صدرت الجمهور المصري وعلي صفحتها الأولي مانشيت بالخط العريض وباللون الأحمر فيه: الكلمة الآن للشعب!
وفي نفس اليوم حصل سعد علي فتوي شرعية من أستاذه في الشريعة الإسلامية الشيخ أبو زهرة نشرها في العدد التالي من الجمهور بالبنط العريض وباللون الأحمر وعلي رأس الصفحة الأولي تقول إن: قتال المحتلين فرض عين علي كل مسلم!
كنت ألتقي سعدا في الميدان خلال المقاومة ضد الإنجليز, وعرفنا أن الإنجليزي ينوون مهاجمة قرية اسمها القرين متهمة بإيواء المقاومين وكان الموقف يحتاج إلي مزيد من البنادق والذخيرة, وتذكر سعد صديقا له وبلدياته من بني سويف اسمه صلاح زعزوع, كان صلاح ضابطا بالجيش يتولي قيادة مجموعة من الجنود لحراسة بساتين بهي الدين باشا بركات!
ذهب سعد إلي صلاح وشرح له الموقف وحصل منه علي الذخيرة وبنادق الجنود, وكان ذلك أن يودي بصلاح إلي المحاكمة والسجن والعزل, ولكنها الإرادة والتصميم والعزيمة التي كان يتحلي بها كل الشعب من أجل طرد المستعمرين, أصبح صلاح فيما بعد أحد الضباط الأحرار الذين قاموا بالثورة في23 يوليو عام1952!
عاشت مصر هذه الأيام معركة بطولية انتهت بخروج المحتلين ورحيلهم عن بلادنا التي جاؤوها عام1882 وخرجوا منها1954 بعد نضال اشترك فيه كل الشعب من فلاحين وعمال وطلبة وضباط جيش وشرطة, كل عام تحتفل مصر بعيد الشرطة تكريما لمجموعة من جنودها كانوا بالبنادق العادية وواجهوا جيش الاحتلال بسلاحه وعتاده ودباباته وطائراته في معركة فاصلة شهد فيها القاصي والداني بأنها كانت المعوال الأخير في انهيار امبراطورية كانت لا تغرب عنها الشمس!
خلال قتاله ضد المحتلين كان سعد بين الحين والحين يأتي إلينا في جريدة الجمهور المصري وكان عضوا في الغرفة رقم(8) وأحيانا كان يقوم بخبطات صحفية مثيرة لم تكن تقل إثارة عما يحدث في مدن القنال وكانت دراسته في الجامعة الأمريكية قد أوصلته إلي إتقان اللغة الإنجليزية وكنا في عام1951 ومصر كلها تغلي مطالبة بإلغاء معاهدة36 التي كانت تسمح بنودها ببقاء قوات الاحتلال, وارتفعت الشعارات الجديدة: الجلاء بالدماء والكفاح المسلح طريق الحرية وفوجئ الناس بخبر يقول إن رئيس أحد أحزاب الأقلية في زيارة له بباريس يصرح لصحيفة فرنسية بأن بقاء القوات البريطانية في مصر كفيل بضمان أمنها واستقرارها وعندما نشرته صحيفة مصرية كذبه رئيس التحرير واتهم الجريدة بالكذب والافتراء!
مندوب جريدة همر ديلي نيوز الأمريكية
واتت سعد فكرة عرضها علي أبو الخير نجيب رئيس التحرير الذي وافق عليها وتحمس لها, أتقن سعد تزوير كارنيه صحافة أجنبي باسم سبنسر دريل مندوب جريدة همر ديلي نيوز الأمريكية وأنه جاء إلي مصر لاستطلاع رأي الزعماء في موضوع قوات الاحتلال في مصر والتقي بعديد من رؤساء الأحزاب منهم من كان حريصا كدسوقي باشا أباظة رئيس حزب الأحرار الدستوريين ومنهم من كان مفلوت اللسان فطلب زيادة قوات الاحتلال عشرة أضعاف ومنهم من رشح إبراهيم عبد الهادي باشا في استقبال القوات الأمريكية إذا ما جاءت بديلا عن الإنجليز ومنهم من اعترف بأن حزبه هو الذي قتل حسن البنا ومنهم من استغرق في حديث غرامي ساخن مع إحدي السيدات المعروفات.
وعاد سعد إلي الجريدة التي نشرت الموضوع علي صفحتين بعنوان الجمهور المصري تكشف الطابور الخامس; وكانت فضيحة العصر التي رفعت توزيع الجريدة إلي عدد خرافي اضطرت معه إلي إعادة الطبع عدة مرات في نفس اليوم!
كان سعد خلال عمليات المقاومة ضد الاحتلال في مدن القناة وكأنه وجد ما كان يبحث عنه طوال حياته, وكأنه مخلوق لا لشيء إلا للصراع مع جنود الإنجليز, وكان ينزل في فندق رويال بالإسماعيلية الذي كان يمتلئ بضباط وجنود الإنجليز خصوصا علي البار الكبير الذي كان يحتل قاعة كبيرة, كان سعد قد عرف بوجود300 مصري محتجزين في أحد معسكرات المحتلين وواتته فكرة فقرر خطف جندي أو اثنين ومبادلتهما بالمعتقلين المصريين!
وعلي البار جلس إلي جانب جندي وبادله الحديث ثم اتصل بصديق له كان يورد الأغذية للمعسكرات وكان يملك سيارة وأقنعه بقصة نيته في خطف جندي وهو موجود معه في الفندق وحالته مؤهلة للخطف لمبادلته بالمعتقلين المصريين وكلهم تقريبا كانوا من مدينة الإسماعيلية واستجاب الصديق وجاء إلي الفندق واقتنع بالمشروع وعندما عاد كان قد أدار موتور السيارة, فوضع سعد يده في جيبه ورفع إصبعه وغرسه في جانب الجندي وقال له هامسا في أذنه: لا تتحرك أنا فدائي مصري ولن نؤذيك إذا ما خرجت معنا في هدوء كان السكر قد عطل أي مقاومة عند الجندي الذي حل فيه الرعب فانقاد لسعد الذي سلك وصديقه طرقا جانبية بعيدا عن نقاط التفتيش في طريقهم إلي القاهرة!
كنت أقيم في شقة وسط القاهرة معروفة للقاصي والداني, كانت في أول شارع شريف, في الدور السابع وأمام البناية ممر علي جانبه قهوة النشاط ويتذكرها أمثالي من المتقدمين في السن, كانت تحتل رصيف الشارع مباشرة, الصف الأمامي يتبعه خمسة صفوف من الكراسي عليها الناس وكأنهم داخل محطة انتظار القطار, كان دائما مزدحما بالناس, وللمقهي قصة من التاريخ لا بأس من سردها, يقولون إن المقهي تغير مع الزمن والجالسين فيه اليوم معظمهم أحفاد من كانوا يجلسون عليه أيام دخول قوات الاحتلال الفرنسي للقاهرة بقيادة نابليون بونابرت, كانت أرتال الجنود والخيال وحاملات المدافع تمر في الشارع أمام المقهي قادمة من بولاق! استلفت نظر مترجم مع الحملة منظر الناس الجالسين علي المقهي يدخنون النرجيلة ويلعبون النرد ويتحدثون ويتضاحكون ولا يبدون غير التفات قليل لقوات الغزو فنزل وجلس إلي جانب شيخ يدخن وقال له: عارفين مين دول؟! قال الشيخ: أيوه دول الإفرنج, قال المترجم: وانتوا قاعدين كده! الموارد البشرية ح تقوموا تطلعوهم ؟! قال الشيخ بعد أن أزاح الشيشية من علي شفتيه وقال بهزة خفيفة من رأسه: بعد شوية همه ح يطلعوا!
وتلك هي فلسفة الشعب المصري من قديم الزمان!
خلف المقهي وأمام المبني كانت حديقة صغيرة جميلة فيها مكان لسيارة واحدة كان يملكها الروائي الكبير عادل كامل المحامي ووكيل صاحب المبني, وكان في واجهة البناية مقهي كانت تملكه سيدة يونانية الأصل كان اسمها مدام روز يؤم مقهاها بشكل يومي الممثل العبقري صلاح منصور وحوله باقي الفنانين والفنانات إلي وقت متأخر من الليل, وفي الدور الأول للبناية ناد للألمان والمصريين الذين تخرجوا في الجامعات الألمانية وهو موجود حتي اليوم ورئيسه الحالي هو المهندس الكبير أحمد عبده, كنت تقريبا مقيما في الشقة وبين آن وآخر كنت أزور أهلي في الجيزة, وكانت الشقة مفتوحة, يزورها في اليوم الواحد أكثر من ثلاثين ضيفا فيهم المترددون بشكل دائم تقريبا منهم زكريا الحجاوي وعباس الأسواني وإحسان عبد القدوس ومحمود السعدني ويوسف الشريف وعبد الرحمن الشرقاوي ولويس جريس والممثل محمد رضا والشعراء أحمد عبد المعطي حجازي وصلاح عبد الصبور وعبد الرحمن الخميسي ومن العرب الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي والفلسطيني معين بسيسو والسوداني محمد الفيتوري والصديق عادل أمين المحامي ومدحت البيلي المهندس الذي كان مقيما في ألمانيا وكانت فترة وجوده بالقاهرة يقضي معظمها في الشقة!
كانت سهراتنا تبدأ من التاسعة مساء وتنتهي في حوالي الثالثة من صباح اليوم التالي, وفي يوم كان الجميع قد انصرفوا إلا كامل زهيري الذي كان يغط في النوم فسحبته وهو نائم إلي السرير وأفوق علي مفاجأة مهولة!
في الرابعة والنصف سمعت طرقا علي الباب وتصورت أن أحدهم نسي شيئا يريد استعادته وفتحت الباب لأفاجأ بسعد زغلول فؤاد يدفع بجندي إنجليزي ويدخل بسرعة ثم يغلق الباب وبين ذهولي عرفت من سعد أنه خطف هذا الجندي وجاء يخفيه في القاهرة واختار شقتي التي لا تصلح إطلاقا ولا بتاتا لمثل هذا الغرض, والتي يؤمها في اليوم أربعين شخصا علي الأقل, وطلب سعد إبقاء الجندي علي الأقل إلي ما بعد الغد حيث أعد له مأوي عند صديق له في الفيوم وبين لي سبب اضطراره وأزمته!
تركت سعد مع المخطوف في الشقة ونزلت سوق التوفيقية الذي لا يغلق أبدا لا ليلا ولا نهارا واشتريت الخيار والخس والطماطم وكوسة التي كان يسهل طهيها بالإضافة إلي2 كيلو لحم وكان الكيلو أيامها سعره أربعين قرشا أحسن نوع كما اشتريت عيش وجبنة وزيتون وعدت إلي الشقة لنغلق بابها ونكتب علي ورقة علقانها علي الباب تقول إنني اضطررت لسفر مفاجئ إلي الإسكندرية وأعود بعد ثلاثة أيام!
.. وقامت قيامة الإنجليز
قضيت مع سعد والجندي الأسير يومين وكان كامل قد اضطر للذهاب لأمر مهم وشخصي بعد أن أقنع سعد بضرورة تسليم الجندي للمسئولين اتقاء للعواقب!
كنت أقيم مع سعد وأسيره في أقصي غرفة بالشقة كنا نأكل ونشرب وننام فيها, تحدثنا وضحكنا وتصادقنا وكان الجندي اسمه ريجدن أخذه سعد وغادر الشقة بعد يومين, كانت قيامة الإنجليز قد قامت وهددوا بتدمير مدن القناة إذا لم يظهر الجندي المخطوف خصوصا وأن الحادث وقع بعد حادث قيام أهالي السويس بقتل ضابط بريطاني اسمه مور هاوس قيل أنه ينتمي للأسرة المالكة البريطانية, ثم عاد سعد وحده وقال لي إنه سلم الجندي لزكريا محيي الدين عضو مجلس الثورة لتنتهي الأزمة بالعثور علي الجندي في أحد شوارع المنيا!
تاريخ سعد زغلول فؤاد حافل بالحوادث والأحداث الكبار ومنها أنه كان علي علاقة قوية بثورة الجزائر ضد الاحتلال الفرنسي وحارب مع جيش التحرير الوطني الجزائري في منطقة الأوراس, وفي عام1963 كانت الجامعة العربية قد دعت إلي عقد مؤتمر للتعريب في الرباط عاصمة المغرب, فمنح الرئيس بن بيلا جواز سفر دبلوماسيا لسعد وكلفه بحضور المؤتمر ممثلا للجزائر!
وما أن انتهت الجلسة الأولي حتي عاد إلي الفندق لينقض عليه أربعة رجال سحبوه وأدخلوه في سيارة معصوب العينين مقيد اليدين, وسارت السيارة وعندما توقفت دخلوا به مبني ورفعوا العصابة من علي عينيه ليجد نفسه أمام الجنرال أوفقير الذي كانوا ينعتونه بسفاح المغرب وأوفقير هو الذي ذبح بيده الزعيم التاريخي المغربي المهدي بن بركة في باريس ودفن مئات من المغاربة في باطن الأرض وهم أحياء, كان أوفقير يعرف العلاقة بين سعد وبن بركة فأمر بتعذيبه والتمثيل به ثم وجه إليه الاتهام بمحاولة اغتيال الملك الحسن الثاني ملك المغرب( أوفقير بعد ذلك هو الذي حاول اغتيال الملك ولكن محاولته خابت فقبض عليه وأدين وأعدم رميا بالرصاص)!
أيام وليال لمدة ثلاث شهور تلذذ أوفقير بتعذيب سعد بأبشع وأحدث أنواع التعذيب إلي أن تدخلت مصر وحصل السفير المصري وكان وقتها عبد العزيز جميل علي موافقة الملك الحسن الثاني بالافراج عن سعد! حمل السفير أمر الإفراج وذهب إلي السجن وطلب باسم الملك تسلم السجين سعد زغلول فؤاد, وارتبك مأمور السجن وخاف وقال إن السجين مودع بأمر الجنرال أوفقير, فأمسك السفير بالتليفون وطلب أوفقير وبعد كلمات قليلة قاله له: إذا ما خرجش معايا ح أقعد معاه! وأعطي السماعة للمأمور الذي أتي بسعد!
مطلوب اعتقالك في مصر
وخلال العشاء في منزل السفير قال لسعد: أنا عارف إنك مظلوم وعارف سر حقد أوفقير عليك بس تحب تروح فين دلوقتي ؟! أصل إنت مع الأسف مطلوب اعتقالك في مصر! فاختار سعد روما وذهب إليها وبعد شهور داخله الحنين إلي مصر, استقبلوه في السفارة بايطاليا بالترحيب وقالوا أنه لا مانع في عودته إلي مصر وأنها كانت مجرد شبهات, وفي صالة الوصول بمطار القاهرة سمع من مكبر الصوت نداء: يقول: رجاء إلي الأستاذ سعد زغلول فؤاد التوجه إلي قاعة كبار الزوار!.
وما أن دخل القاعة حتي استقبله أربعة رجال بالترحاب وقدموا أنفسهم بأنهم من مصلحة الاستعلامات جاءوا ليكونوا في شرف استقباله وتسهيل إجراءات وصوله وبعثوا في إحضار حقائبه, وكان كبيرهم أشيب الشعر أشار لسعد وقال اتفضل سعادتك, وعلي باب الخروج كانت تقف سيارة سوداء فاخرة ركب فيها بالمقعد الخلفي وعن يمينه الأشيب ورجل آخر عن يساره والباقون في المقدمة, وسارت به السيارة في طريق وعندما وقفت أنزلوه ليجد نفسه في السجن الذي قضي فيه أربعة شهور انتهت بحكم القاضي مصطفي زاهر الذي قال في حكمه: ثبت للمحكمة عدم صحة كافة الادعاءات الواردة ضد سعد زغلول فؤاد ويفرج عنه من سراي النيابة ما لم يكن محبوسا علي ذمة قضية أخري!
بعدها سافر سعد إلي العراق فلم يعجبهم سلوكه ولا استقلالية تفكيره ولا أحاديثه التي كان يتناثر منها ما أغضبهم, ويقال أنهم سقوه السم فساءت حالته وثارت زوجته التي كانت ترافقه وهددت وتوعدت فأرسلوه إلي فرنسا حيث عالجوه وشفي بعد جهد طويل, واستقر في باريس هو أسرته ثم عمل مراسلا لجريدة الأهرام في باريس إلي أن تركها وجاء إلي مصر وتقاعد واتخذ له شقة في حي المهندسين ولم يتغير فيه شيء, نفس القهقهة العالية ونفس الابتسامة العميقة وإن كانت السنون والأحداث قد نالت منه بعض الشيء!
قصة سعد طويلة غنية أسعدني الحظ برفته في بعضها وحكيت ما وعته الذاكرة منها, وأرجو أن أكون قد وفيته بعض ما أكنه له من إعزاز واعتزاز وتقدير وحب وعشرة طويلة بلغنا فيها أرذل العمر!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.