نقاش جديد في الولاياتالمتحدة حول مكانتها علي الساحة الدولية وهل يستوجب علي المجتمع الأمريكي أن يدخل في مرحلة عزلة جديدة ويتوقف عن التمدد في جنبات الكرة الأرضية مثلما كان الحال في الأعوام السبعين الماضية ويفكر في الداخل وحده أم يستمر في استعراض قوته في المناطق الحيوية مثل الشرق الأوسط وجنوب شرق أسيا حتي يحافظ علي مصالحه؟ كتاب السياسة الخارجية تبدأ من الداخل لرئيس مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي ريتشارد هاس واحد من الكتب التي تسهم في النقاشات الأمريكية وهو جدل يهم العالم كله وليس الداخل الأمريكي وحده نتيجة الوجود المتنوع للقوة الأمريكية من أساطيل حربية إلي شركات متعددة الجنسيات وثقافة شعبية أمريكية غزت كل بيت حول العالم. يقول هاس في مقدمة الكتاب إن التهديد الأكبر للأمن والرفاهية الأمريكية يأتي من الداخل وليس من الخارج. كما يروق للكثيرين أن يجادلوا, نتيجة تراجع الولاياتالمتحدة في الإنفاق الداخلي والاستثمارات في الثروة البشرية والمرور بأزمة مالية لا يمكن تجنبها وعملية تعافي بطيئة بشكل غير مبرر, وحربين في العراق وأفغانستان بلا أهداف واضحة سببت جلطات مالية وإنقسامات سياسية بالغة ويري أن الولاياتالمتحدة لا يمكنها أن تبقي علي سطوتها في الخارج ما لم تقم باستعادة عناصر القوة الداخلية وهو نقد ينطبق علي كل دولة تريد أن تتبع سياسة خارجية قوية- ليس بالضرورة تقوم بالتوسع العسكري أو استخدام القوة ضد دول أخري- ولكن الاستفادة من المكونات الايجابية في الداخل لسياسة خارجية أفضل. يقصد هاس وهو خبير معروف في العلاقات الدولية ودبلوماسي عمل بالخارجية ووكالات حكومية أخري لمدة أربعة عقود, أن العودة عن السياسة الخارجية بنهجها الحالي وتعظيم الاستثمار في الداخل وإصلاح السياسة المحلية هو السبيل إلي سياسة خارجية أفضل, عليه فالولاياتالمتحدة يجب أن تراجع أفعالها وسلوكها الخارجي. وتعتبر حرب العراق الثانية التي بدأت عام3002 هي المحرك الرئيسي لهاس في وضع الكتاب ومعها عملية رفع تعداد القوات الأمريكية في أفغانستان عام9002 وهما واقعتان حدثتا مع إدارتين مختلفتين وبالتالي الأمر لا يتعلق بأداء الديمقراطيين أو الجمهوريين بل بمسار صناعة السياسة الخارجية بشكل عام ويري أن صناعي السياسات في الحزبين الديمقراطي والجمهوري قد نسيا النصيحة التي قدمها الرئيس الأسبق جون كوينزي أدامز, قبل قرنين, أن الولاياتالمتحدة لا تخرج من أجل البحث عن الوحوش لتقتلهم فضلا عن عدم استيعابهم لدروس حرب فيتنام حول محدودية استخدام القوة العسكرية والميل لانتصار الحقائق المحلية علي الفرضيات المجردة التي تأتي بها القوي الكبري. وكان هاس قد ناقش في كتاب صدر في التسعينيات الدور العالمي للولايات المتحدة بعد سقوط الإتحاد السوفيتي, القوي المنافسة, وقال إن أمريكا تفقد دائما فرص سانحة لتقوية المنظمات العالمية عندما تنفرد بالساحة الدولية من أجل بناء نظام عالمي جديد يقوم علي عمل مؤسسي لمجابهة التحديات الناشئة, ثم كتابه الثاني الفرصة عام5002, حيث قال إن الولاياتالمتحدة ترتكب أخطاء كبيرة وعليها أن تعمل علي إصلاحها وهناك حاجة لترتيبات دولية تخفف من وطأة العولمة وتهديدات الأمن والتهديدات الاقتصادية للمصالح الأمريكية والنظام الدولي. من وجهة نظر ريتشارد هاس, الخطر علي بلد في حجم أمريكا ليس في التقدم الإقتصادي للصين أو الإرهاب القادم من باكستان أو حيازة كوريا الشمالية لسلاح نووي.. ولكن الخطر في تراجع مستوي المدارس وأن يصبح التعليم درجة ثانية.. وزيادة مستمرة في الدين العام والعجز المالي والدخول في فترة طويلة من النمو الاقتصادي المنخفض وتدهور الخدمات وتراجع التوظيف.. بمعني تأكل عوامل القوة الأمريكية التي تبني عليها السياسة الخارجية القوية وغياب التأثير المطلوب علي الأخرين علي الساحة العالمية بفقد القدرة في الداخل.. وهو لا يري أن القوة الأمريكية في تراجع مثل عدد من الباحثين في العلوم السياسية والتاريخ بل يؤكد ان الإقتصاد الأمريكي هو الأقوي ومستمر في النمو والتعليم في أفضل حالاته والبني التحية متماسكة وقدرات الابتكار والتطوير في أجل صورها ولكن الأهم هو أن يعرف الأمريكيون إلي أين يتجهون في المستقبل؟ وماهية العوامل التي تحافظ علي استمرار تفوق بلدهم مقارنة بالشعوب الأخري.. وبالمثل لا يقدم نفسه مواليا لتيار يسمي بتيار العزلة أو ناصحا بإنغلاق المجتمع الأمريكي علي نفسه لأنه يري أن العزلة قد لقيت مصرعها في القرن الواحد والعشرين ولم يعد لها وجود في ظل الصلات الوثيقة بين البشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي وتبادل المنافع الإقتصادية بشكل غير مسبوق.. فلم تعد الحدود هي الموانع الطبيعية بين الدول! ويري أن الدول الكبري- الأمر نفسه ينطبق علي القوي الأقليمية من وجهة نظري- يتعين أن تختار نوعية القضايا التي يجب أن تتدخل فيها علي الساحة الدولية والأهم هو كيف يمكن لها أن تمضي في الانخراط في تلك القضايا دون أن يعيقها نقص الموارد المالية عن التدخل في أمور بعينها بأن تعرف ما تريد إنجازه خارجيا بوضوح.. وفي تلك الحالة عليها أن تفرق ما بين ما هو مأمول وبين ما هو حيوي في المصالح الخارجية وبين ما هو ممكن وما هو مستحيل! يقول هاس إن الأخطاء التي وقعت في مسار السياسة الخارجية الأمريكية في العقد الماضي كثيرة وأهمها التوسع المبالغ فيه من أجل إعادة تشكيل أجزاء من الشرق الأوسط الكبير وما يستوجب إعادة النظر هو إمكانية توزيع الوجود الأمريكي بشكل متوازن في مناطق العالم المختلفة والتركيز بشكل أكبر علي منطقة المحيط الهادي واسيا والفناء الخلفي في أمريكا الجنوبية وبدرحة أقل الشرق الأوسط وأن تركز علي ما تفعله الدول خارج حدودها وليس علي ما تفعله الحكومات داخل حدودها.. وربما سوف يوصف السلوك الأمريكي في كثير من الحالات بأنه غير استراتيجي أو غير أخلاقي. ويخرج ريتشارد هاس باستنتاج أن الولاياتالمتحدة لو قامت بتلك الخطوات ستكون هي محرك الأحداث وليست صاخبة رد الفعل علي ما يجري في العالم! ومن وجهة نطر هاس فالولاياتالمتحدة عليها أن تبني لما سماه القرن الأمريكي الثاني لاستكمال التسمية الأولي التي أطلقها الكاتب الأمريكي هنري لوس في عام1491 عن القرن الأمريكي والتي ودعت بها بلاده العزلة نهائيا بدخولها الحرب العالمية الثانية إلي جوار الحلفاء ثم الفوز بالحرب وتلاها الحرب الباردة وفي القرن الأمريكي الثاني يري هاس أن الإنتصار لن يكون للأيديولوجيا في صراع مع طرف أخر أو هزيمة التوجهات السلطوية او الديكتاتورية ولكن الانتصار بوضع القواعد والترتيبات تتناسب مع التحديات التي تفرضها تلك الحقبة من التاريخ.. ومن تلك التحديات التغير المناخي والانتشار النووي والأمراض المستوطنة والأوبئة والحمائية الإقتصادية الضارة للإستثمارات والأرهاب العابر للحدود ويري أن فكرة القرن الأمريكي الثاني قابلة للتحقق لمجموعة من الأسباب أهمها أن الإقتصاد الأمريكي هو الأقوي بمراحل عن القوي التالية له( الناتج المحلي61 تريليون دولار يمثل ربع الناتج العالمي ومقابل الصين7 تريليونات دولار واليابان6 تريليون دولار) والقوة العسكرية الأمريكية هي الأكبر ولا تستطيع دولة اخري أن تنافسها بإنفاق قدره005 مليار دولار سنويا, ولا توجد دولة قادرة علي مزاحمة الولاياتالمتحدة أقتصاديا بالنظر إلي أن معدل النمو في الصين يتراجع ويوم مزاحمة الصين لأمريكا يبدو بعيدا نسبيا, والدول الأخري لا تبشر أرقامها بإمكانية الإقتراب من التفوق الأمريكي ولديها مشاكلها السياسية والإقتصادية والإجتماعية التي يصعب معها أن تسعي لمكانة عالمية إلي جوار الولاياتالمتحدة! والأمر الأخر أن الولاياتالمتحدة رغم ما تسببه من ضجة وقلاقل من قراراتها السياسية فإنها تظل قادرة علي التعامل وتبادل المصالح مع الدول الكبري الأخري مثل الصين, وبالقطع الأهم في أستمرار التفوق هو مساحة الولاياتالمتحدة التي تجود بأشياء كثيرة أهمها الاراضي الشاسعة الصالحة للزراعة والموارد الطبيعية ووجود تنوع بشري لا يتكرر في بلد آخر! تلك صورة متفائلة يرسمها رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي ومدير تخطيط السياسات السابق في الخارجية الأمريكية عن الدور المستقبلي لبلاده علي الساحة الدولية وإمكانية أن تعيد رسم أدوارها لتستمر علي القمة.. ولكن بالنسبة لنا هو أن نعي أن قوة الدولة في الداخل هي التي تصنع دولة يحترمها الجميع في الإقليم وخارجه وأن الدولة عليها أن تحدد أولوياتها من خلال صورة واقعية لقدراتها وهو لن يتحقق إلا من خلال سياسات داخلية ناجحة..