عرضنا في الجزء الأول من هذا المقال جوانب مهمة من رؤية الدكتور جمال حمدان لمصر.. وهنا التتمة..من الوحدة إلي المركزية, جاءت خطوة منطقية أخري الي الأمام ولكن من المركزية الي الطغيان تمت خطوة أخيرة ومؤسفة الي الوراء عن الأولي, فلاجدال أن الدولة المركزية, والمركزية العارمة ملمح ملح وظاهرة جوهرية في شخصية مصر, لا تنفصل ولا تقل خطرا عن ظاهرة الوحدة نفسها ولا تختلف في عواملها وضوابطها الطبيعية عن قوة المركزية الجغرافية والوحدة الوظيفية, وطبيعة الري في البيئة الفيضية, وعلي الرغم من الامتداد الطولي الخطي الجسيم, فرضت المركزية السياسية والإدارية ثم الحضارية نفسها فرضا في شكل حكومة طاغية الدور فائقة الخطر وبيروقراطية متضخمة متوسعة أبدا وعاصمة كبري صاعدة الي أعلي صاروخيا وشامخة فوق البلد غالبا, يصدق هذا منذ الفرعونية حتي اليوم وبلا استثناء تقريبا ومنذئذ والي الآن كقاعدة أيضا, أصبحت المركزية الحكومة, البيروقراطية, العاصمة أطرافا أربعة أو مترادفة لمشكلة واحدة مزمنة ولمرض مستعص تقريبا. علي أن السمة الأكثر سلبية والمرض المدمر حقا إنما هو تردي المركزية إلي الاستبداد والطغيان ومهما اختلفت التسميات بين الطغيان الفرعوني أو الإقطاعي, وسواء عد هذا قطاعا عاديا من الاستبداد الشرقي بنمطه المعروف أو عد قمته وأعتي صورة كما يري الكثيرون, وأيا كانت النظريات المطروحة في تفسيره من نمط الإنتاج الآسيوي الي المجتمع الهيدرولوجي وبيئة النهر والري والزراعة الفيضية, فإن الطغيان والاستبداد الغاشم الباطش هو من أسف حقيقة واقعة في تاريخ مصر من بدايته الي اليوم مهما تبدلت أو تعصرت الواجهات والشكليات. وسواء كانت مصر أم الدنيا أو أم الديكتاتورية, أو كان حاكم مصر هو أقدم أمراضها كما يذهب البعض, فلا شبهة في أن الديكتاتورية هي النقطة السوداء الشوهاء في شخصية مصر بلا استثناء, وهي منبع كل السلبيات والشوائب المتوغلة في الشخصية المصرية حتي اللحظة, ليس علي مستوي المجتمع فحسب ولكن الفرد أيضا, لا في الداخل فقط ولكن في الخارج كذلك. ولقد تغيرت مصر الحديثة في جميع جوانب حياتها المادية واللامادية بدرجات متفاوتة, إلا نظام الحكم الاستبدادي المطلق بالتحديد والفرعونية السياسية وحدها, فهي لاتزال تعيش بين( أو فوق) ظهرانينا بكل ثقلها وعتوها وإن تنكرت في صيغة شكلية ملفقة هي الديمقراطية الشرقية أو بالأحري الديموكتاتورية. والمؤكد أن مصر المعاصرة لن تتغير جذريا ولن تتطور الي دولة عصرية وشعب حر إلا حين تدفن الفرعونية السياسية مع آخر بقايا الحضارة الفرعونية الميتة. من هنا جميعا فإذا كنا قد جادلنا بأن الكلام عن شخصية مصر لايعني إقليمية ضيقة فضلا عن شوفينية شعوبية, ولايضع الوطنية في مواجهة ضد القومية, فإننا نضيف الآن أنه لايؤكد الوطنية من خلال القومية فحسب بل ويؤكد القومية من خلال الوطنية تأكيدا صحيا بغير تعارض, وإذا كانت بعض البلاد مثل الولاياتالمتحدة قد نجحت وحدتها لأنها كما قيل قد تجاهلت عمدا وعن قصد كل الجغرافيا وكل التاريخ, وإذا كانت بلاد أخري مثل كندا تعاني وحدتها لأنها تتذكر الجغرافيا أكثر مما ينبغي وتتذكر التاريخ أقل مما ينبغي, وإذا كانت بلاد أخري مثل غرب أوروبا تتعثر وحدتها لأنها تتذكر كثيرا جدا من التاريخ وقليلا جدا من الجغرافيا, إذا كان هذا فإننا في الوطن العربي يمكن أن تنجح وحدتنا أكثر كلما تذكرنا الجغرافيا والتاريخ معا أكثر وأكثر, لأن التاريخ يجمعنا مثلما تفعل الجغرافيا, والمكان والزمان عوامل وحدة بيننا, بل ربما جاز لنا أن نقول ان الجغرافيا والتاريخ هما طوب وحدتنا العربية وملاطها أو هما لحمتها والسداة. وبعد, فلقد كان ضروريا قبل أن نمضي إلي شخصية مصر بافاضة أن نضغط علي المغزي الفكري للدراسة حتي لانترك مجالا لتخريج أو تأويل مبتسر, فما نري في شخصية مصر مهما تبلورت أو تجوهرت إلا جزءا من شخصية الوطن العربي الكبير الملحمية الثرية, ولا نري في دراستها تعارضا أي تعارض مع أمل الوحدة الشاهق ومع ذلك فقد عقدنا بابا كاملا مطولا ذا فصول يضع مصر بين العرب في الإطار التكاملي القومي الشامل مثلما يضع الوطنية في إطارها الصحيح من القومية ويعقد صلحا علميا وعمليا وحياتيا أبديا بين قطبيها المتجاذبين لا المتنافرين. ومصر بالذات محكوم عليها بالعروبة والزعامة, ولكن أيضا بتحرير فلسطين, وإلا فبالإعدام, فمصر لاتستطيع أن تنسحب من عروبتها أو تنضوي علي نفسها حتي لو أرادت كيف؟ وهي إذا نكصت عن استرداد فلسطين العربية كاملة من البحر إلي النهر وهادت وهادنت وخانت وحكمت عليها بالضياع, فقد حكمت أيضا علي نفسها بالإعدام, بالانتحار, وسوف تخسر نفسها ورصيدها, الماضي كالمستقبل, التاريخ والجغرافيا. لكن مصر رغم ثلاثية النكبة فالنكسة فالكارثة العظمي, لايمكن أن تركع وتستسلم للعدو تحت أي شعار زائف أو ستار كاذب, ومصر مستحيل أن تكون خائنة لنفسها ولشقيقاتها, وليس فيها مكان لخائن ايا كان موقعه كما اتهمها البعض أخيرا, ورغم كل شيء, فإن كل انحراف إلي زوال, وان عجز الشعب المغلوب علي أمره عن كسحه إلي سلة قاذورات التاريخ, فلسوف يفعلها التاريخ نفسه ولن تصبح مصر دولة حرة قوية عزيزة متقدمة يسكنها شعب أبي كريم متطور إلا بعد أن تصفي وجود العدو الإسرائيلي من كل فلسطين, فبهذا, وبه وحده, تنتقم لنفسها من كل سلبيات تاريخها وعار حاضرها, وإلي أن تحقق هذا فستظل دولة مغلوبة مكسورة راكعة في حالة انعدام وزن سياسي تتذبذب بين الانحدار والانزلاق التاريخي, دولة كما يصمها البعض شاخت وأصبحت من مخلفات التاريخ تترنح وتنزاح بالتدريج خارج التاريخ وذلك نحن نثق لن يكون غير أن علي مصر, كما علي العرب, أن ترتفع إلي مستوي التحدي والمسئولية: الأولي بأن تعطي العرب قيادة عبقرية جديرة قادرة لا قيادة قميئة عاجزة خائرة, والثانية بأن تعطي مصر كل شحنة وطاقة من القوة المادية والمعنوية تدير بها الصراع, إن مصير مصر ومكانتها في العالم سيحددها مصيرها ومكانتها في العالم العربي, ومصيرها ومكانتها في العالم العربي سيحدده مصير فلسطين. تأمل قوة العبارات وصرامتها أسباب أخري للاغتيال ربما وينهي جمال حمدان مقدمته الثرية بالعبارة التالية: عسي دعنا نأمل أن يجد كل مصري نفسه في هذا الكتاب, ولسوف يرضي ولقد صدق! وإن دار هذا المقال حول مقدمة العمل, فما بالك بمتن السفر الرائع البديع حقا؟ لمزيد من مقالات د . نادر فرجانى