خطف رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون الأضواء في قمة الإتحاد الأوروبي الأسبوع الماضي عندما استخدم الفيتو لوقف التعديلات المقترحة علي معاهدة ماستريخت للإتحاد الأوروبي فيما يتعلق بتنسيق السياسات المالية, إلا أن هذا الموقف قد يتسبب في عزل بريطانيا عن الخطط القادمة للتعاون والتنسيق الأوروبي بعد نجاح الثنائي' ميركوزي' نسبة إلي إنجيلا ميركل رئيسة وزراء ألمانيا والرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي في كسب تأييد الدول الأخري الأعضاء لاستكمال التفاوض حول إتفاق لإنقاذ منطقة اليورو. إلا أنه في الوقت نفسه فإن الحلول المطروحة لأزمة الديون الأوروبية وإنقاذ العملة الأوروبية الموحدة من خلال هذا الإتفاق لا تزال غير مرضية أو مطمئنة للأسواق. المقترحات علي طاولة المفاوضات التي إتفق عليها رؤساء26 دولة في الاتحاد الأوروبي لم تصل إلي مستوي الإتحاد أو الإندماج في السياسات المالية ولكن تضمنت مزيدا من التنسيق بين الدول من خلال وضع ضوابط تحافظ علي الإستقرار المالي للدول المنضمة للعملة الموحدة, وتشمل وضع حد أقصي لعجز الموازنة الهيكلي( العجز المزمن الذي سيستمر حتي في حالة عودة النشاط الإقتصادي لمعدلاته المرتفعة واستغلال كامل الطاقة الكامنة في الإقتصاد) عند0.5% من الناتج المحلي للدولي, وبحيث يتم إضافة هذه القاعدة في دساتير الدول الأعضاء مع وضع آليات أوتوماتيكية لتصحيح أي اختلال. كما تم الإتفاق أيضا علي مقترح فرض عقوبات مباشرة فورية علي الدول التي يتجاوز العجز الكلي في موازنتها العامة نسبة3% من الناتج المحلي والمتفق عليها في معاهدة ماستريخت إلا في حالة معارضة أغلبية مؤهلة من الدول الأعضاء, غير أنه لم يتم الإتفاق بعد علي نوعية هذه العقوبات. كما تم الإتفاق علي تفعيل الآلية الجديدة للإنقاذ المالي لدول الإتحاد الأوروبي في منتصف عام2012 قبل الميعاد المخطط لها بعام كامل, وبحيث يتم أخذ القرارات به وفقا للأغلبية المؤهلة( الحصول علي85% علي الأقل من تصويت الدول) أي أن حق الفيتو سوف يقتصر علي ثلاث دول فقط هي ألمانيا وفرنسا وأيطاليا والتي تستحوذ كل منها علي أكثر من15% من حقوق التصويت. كذلك تضمنت المقترحات أن تعرض الموازنة العامة لكل دولة علي المفوضية الأوروبية والتي سيكون لها الحق في الطلب من الدول مراجعة هذه الموازنة في حالة إنحرافها عن تحقيق الإستقرار المالي المستهدف. وعلي الرغم من أن بريطانيا كانت أولي المطالبين بإجراءات وضوابط لضمان تحقيق الاستقرار المالي في دول منطقة اليورو إلا أنها وجدت أن هذا الإتفاق لا يشمل الضمانات الكافية لحماية لندن كعاصمة لأسواق المال في أوروبا, وأن مثل هذا الإتفاق قد يفتح المجال بعد ذلك لاتخاذ إجراءات تضر بالقطاع المالي المهم في بريطانيا مما أدي لإعتراضها وانسحابها بغرض الحفاظ علي سيادتها الوطنية وعدم التنازل عن أي منها للإتحاد الأوروبي وهو ما يؤمن به حزب المحافظين الحاكم حتي ولو كانت علي حساب خسارة المكاسب الاقتصادية من هذا الاندماج. وقد قامت الدول السبعة عشر الأعضاء في منطقة اليورو بالإضافة إلي ال9 دول الأخري الأعضاء في الإتحاد ولكن خارج العملة الموحدة( بخلاف بريطانيا) بالاتفاق علي إستمرار التفاوض حتي مارس2012 لإستكمال الإتفاق النهائي حول هذه الضوابط الجديدة. وعلي الرغم من أن هدف هذه الإجراءات الجديدة هو طمأنة المستثمرين في الأسواق حتي تستطيع الدول الاقتراض بأسعار فائدة منخفضة, إلا أن رد فعل الأسواق كان سلبيا بل إنخفض اليورو إلي أقل مستوي له خلال11 شهرا خلال الأسبوع الماضي, كما قامت مؤسستا ستاندرد آند بورز وموديز للتقييم الائتماني بوضع دول الاتحاد الأوروبي تحت الملاحظة السلبية مع إمكانية تخفيض درجة التقييم الإئتماني لهذه الدول أو بعض منها. ويأتي تخوف الأسواق كما يري بعض المحللين أن هذه الإجراءات تركزت علي التقشف الاقتصادي وهو ما لا يمثل علاجا هيكليا لأزمة الديون الأوروبية, حيث ستتسبب هذه الإجراءات التقشفية في مزيد من الخفض في معدلات النمو الإقتصادي وبالتالي تأثير سلبي علي معدلات الإستهلاك والأرباح التي تحققها الشركات ومن ثم الإيرادات التي يمكن أن تحصلها الدولة من الضرائب بأنواعها المختلفة, وفي هذه الحالة قد لا يتحقق المستهدف من خفض عجز الموازنة مما سيستلزم معه تطبيق إجراءات تقشفية إضافية تزيد من عمق التباطؤ الإقتصادي في أوروبا ليس فقط في الدول الأعلي مديونية ولكن أيضا في الدول الكبري التي يؤدي إقتصاداتها بشكل جيد في الوقت الحالي مثل ألمانيا وهولندا؟! ولا تزال الصورة غير واضحة أمام المستثمرين حول إمكانية أن تؤدي هذه الإصلاحات إلي إستعادة النشاط الإقتصادي في وقت قريب أو تحقيق هدف الإستقرار المالي علي المدي المتوسط. ويتوقع بعض المحللين إمكانية إستمرار الركود في الإقتصاد الأوروبي أو علي الأقل تلاشي معدلات النمو الإيجابية لمدة عامين علي الأقل, وهو ما سيؤثر علي رغبة المستثمرين في شراء الأوراق المالية التي تطرحها دول اليورو في الأسواق بإعتبارها ذات مخاطر مرتفعة, وبالتالي إرتفاع أسعار الفائدة إلي مستويات تهدد الاستدامة المالية للدول المقترضة. ومن المنتظر أن تنزل إيطاليا وأسبانيا للإقتراض من الأسواق بمبالغ كبيرة في شهر يناير المقبل وهو ما يعد اختبارا مهما لتقبل الأسواق لخطط الإصلاح الأوروبية. بينما يري البعض الآخر إمكانية طمأنة الأسواق من خلال إعطاء دور أكبر للبنك المركزي الأوروبي يستطيع من خلاله شراء حجم أكبر من الديون الرديئة للدول المتعثرة بل حتي قيامه بطبع النقود في حالة موافقة أغلبية دول الأعضاء, ولكن يبقي الحل الأخير مستبعدا بسبب أنه يمثل انحرافا عن الهدف الأساسي للبنك المركزي الأوروبي في الحفاظ علي معدلات منخفضة للتضخم, وهو ما لا يمكن أن يسمح به أيضا البنك المركزي الألماني البوندسبنك والذي لا يزال يحتفظ بدور قوي ومهيمن علي الساحة النقدية الأوروبية. وفي الوقت الذي تبدو فيه الأسواق حائرة بين أولوية تخفيض عجز الموازنة ومعدلات الدين العام الأوروبية وبين الإسراع في معدلات النمو الإقتصادي يبقي السؤال الصعب حول قدرة اليورو علي الصمود خلال الفترة المقبلة, ومدي تصميم ورغبة القيادات الأوروبية في منع إنهيار هذه العملة الأوروبية الموحدة التي تمثل ركيزة لتجمع وكيان الإتحاد الأوروبي نفسه, ومدي إمكانية إتباع سياسات نقدية وإقتصادية تناسب جميع الدول في منطقة اليورو رغم تفاوت مستويات التقدم الإقتصادي في كل منها.